د. عبدالجبار العلمي - الطَّاحونة.. قصة قصيرة

كان آخذاً طريقه إلى المقهى . لفحات البرد تجمدُ وجهَه الشاحب. الفجرُ يفتح براعمَه المضيئة وراء الأفق. الطريق المرصوفة بالحجر يرشُّها الندى وجدرانُ البيوت على جانبيها تكتسي لوناً أزرق ، وتتلألأُ قراميدُها البنيةُ بضوءِ الفجر . وعند نهاية الطريق ، تقوم طاحونة مائية يوشي عنها صوتُ دورانها قبل الانتهاء إليها. طاحونة هي الدنيا . دورانها بلا نهاية . هذه الطاحونة المائية مثلها ، لا تكاد تكف عن الدوران. والماء المتدفق من أعلى الجبل الذي يديرها، لا يكف عن الجريان صيفاً وشتاء،ً ليلاً ونهاراً . نمتْ في رأسه هذه الفكرة عند مروره بحذاء الطاحونة ، لكن سرعان ما هبتْ ريحٌ قارسةٌ كسرتْ براعمها حينما انعطفَ إلى الشارع الواسع نحواً ما المحفوفِ من جانبيه بأشجارِ النارنج الذاوية. حملتِ الريحُ إلى سمعهِ هديرَ الطاحونة ، وهو يحث الخطى بوهن. أزهرت في رأسه الفكرة ثانيةً : " طاحونة هي الدنيا . طاحونةٌ مملة الدوران " . آهٍ كم هو قارس البردُ هذا الفجر ! الريحُ تتسللُ من فتحةِ جلبابكَ الصوفي الرَث إلى كلِّ جسمك ، تجمد أطرافك ، وتزيدُ ضراماً ألمَ عنقك . إنك تحسُّ أن جسماً ما يسكن بداخله ، جسماً حاداً ذا فاه شائك. لكن ، ما أهون هذا الألم بالقياس إلى ألم بطنك ! إنك لم تحس به شديداً هذا الصباح. ربما لأنك لم تتناول بالأمس أي طعام ، ولم تأكل قبل خروجك من البيت. إنه نفس جسمِ العنقِ ذي المنقار الشائك ، لكنه أكثر نشاطاً واستمراراً في العمل. إنه مثل الطاحونة ، مثل الكرة الأرضية في استمرار الدوران . أحدثتْ خَشْخَشَةً أوراق الأشجار الذابلة حين داسها بحذائه. لفتتْ نظرهُ الأشجارُ المنتفضةُ بين أصابعِ الريح . فكر : إن نظامها أيضاً كنظام الطاحونة ونظام الكرة الأرضية . تورقُ ربيعاً وتسقط أوراقها في الخريف في دوران ممل رتيب سقيم : ( ربيع خريف خريف ربيع ربيع خريف ) . وخزه الجسم الصغير ذو المنقار الحاد في داخل بطنه. أدخل يدهُ تحت الجلباب. وضعها على موضع الألم . أخذ يهدهده . ازداد تقلص وجهه إذ لطمتهُ الريحُ المغسولة بالماء البارد وانتابت بدنَهُ قشعريرة. سال من الأفق بغزارة سائل الضوء الفضي فغسلَ وجه السماء من أثر سوادِ الغيوم. هل ثمة سائلٌ يَغسِلُ الدنيا من الهمومِ والآلام ؟ ..
خفَّ ألمُ بطنه قليلاً وأخرج يده من تحت الجلباب. أمسك بها " قبَّ " جلبابه ليصد عن وجهه البرد والريح. أدخل الأخرى التي أُثْلِجَت ماسكة به . وراودَه حلم البرء من مرضه وأمل الخلاص من الجسم الحاد الذي يدور داخل بطنه وعنقه باستمرار طيلة سنتين . لكن ..هاهو ذا الطب لم يستطع إزاء مرضك القيام بشيء مجد . وهاهي ذي إقامتك ، بعيداً عن بلدتك وصغارك ، ثلاثة أسابيع لم تسفر عن أي نتيجة ، غير بقاء العيال دون عائل يعولهم . يقولون لك إنه مرض لا يعرف دواءه الأطباء. إنه من اختصاص المتشفعين وذوي البركات ، وهاأنت ذا منذ خمسة أيام ، موعد خروجك من المستشفى ـ استهلكتَ أنواعاً من الأعشاب التي وُصفت لك وطرق مزجها بالعسل وغيره ، وتجرعت خمس كؤوسٍ من ذلك العصير المر البغيض. هل من أثر لكل ذلك ؟ حتى أكبر مدعي علاج هذا المرض في بلدتك الصغيرة فشل ، بعد أن شوى لحم بطنك وعنقك بسفود طويل ساخن. عاد الجسم الحاد اللعين إلى إيلام بطنه . الفجر مازال ينشر غلائله المضيئة على الأشجار الذاوية ، ويسقط بعض القطع الفضية في برك متناثرة في عرض الطريق. لاح له المقهى البغيض ببابيه الحديديين المصبوغين باللون البني الباهت. تذكر الطاحونة ، والكرة الأرضية والأشجار .. فكر أنه أيضاً مثل الطاحونة والكرة الأرضية والأشجار . إنه يعمل مثلها في دوران لانهائي. من الفجر إلى منتصف الليل يعمل كالآلة ، لا يتوقف إلا لحظات في وقت الغداء. منذ أن عرضت كتفاه تحمل مسؤولية حياته أولاً ، وبعد ذلك مسؤولية زوجه وأبنائه الثمانية ، وطافت بخياله صور بعيدة من حياته. في سن الصبا عمل صبياً لنساج قطع الجلابيب الصوفية. في شبابه ترقى في صنعته ليصير معلما " درَّازاً ". درَّازاً ماهراً ذائع الصيت بين أقرانه من أصحاب الصنعة في بلدته. لا يعرف الغش والتزوير في صناعته . تغير الزمان ، وكسدت صناعة وتجارة الصوف ، فعمل في متجر كبير لبيع الصباغة وأدواتها ثم دكان لبيع المأكولات. وانتهى به المطاف إلى العمل في هذا المقهى منذ خمس عشرة سنة . اقترب من مبناه طنت في أذنه كلمات صاحبه المتغطرس الحديث النعمة . حين طلب منه رخصة ثلاثة أيام ليذهب خلالها ليعرض نفسه على الطبيب ، قال له : ـ اغرب عن وجهي بإجازة أبدية إن شئت . آه لو تستطيع .. لو تستطيع أن تغرب عن وجهه. لو أمكنك أن تجد عملاً فيه ساعات محدودة لا ينال فيه من صحتك هكذا ، ويوفر لك ما يقيم أود الصغار ، ولا تكون فيه مثل طاحونة الزيتون في دوران دائم دونما توقف. بدأت السماء تصحو ، ولاحت في عمق الزرقة نقط ضائعة كانت قبل نجوماً ، وقلص هبوب الريح وجهه حين انزلق قبُّ جلبابه عن رأسه بعد أن دلى يده التي كانت ممسكة به ليطلع مفتاح بابي المقهى من جيبه. آلمته لطمةُ الرِّيحِ الشديدة. حركت الجسم الساكن داخل العنق المتورم . صر الباب الحديدي حين استجمع كل قواه لرفعه إلى الأعلى. تسللت أعمدة رقيقة من الضوء وتكسرت على الكراسي والطاولات المستديرة والمربعة المتناثرة في أرجاء المقهى.وازداد ألم عنقه حين رفع الباب الثاني ، ووقف مبهور الأنفاس . دخل المقهى. كان ضوءُ الصباحِ قد تسربَ فعمَّ المقهى بعد فتحهِ الباب. طفقَ يُعد القهوةَ في "الماكينة" بعد أن أخذت قسطها الكافي من السخونة بواسطة الكهرباء ، ويغلي الماء للشاي . العاملان اللذان يقاسمانه العمل لم يحضرا بعد . انفلتت أولى أشعة الشمس الوانية . أحس ببعض الدفء يغمره وهو بين ألسنة نار الغاز المشتعلة تحت الأواني. خف ألم بطنه وعنقه قليلاً. شعر بشيئ من الراحة تعم نفسه ودب في جسمه استرخاء لذيذ. جلس على كرسي صغير . جاء زميله الأول بيده آنية لبن طري . ناوله إياها.
ـ صباح الخير . وخلع سترته البالية ، ودخل بها حجرة صغيرة ، ثم خرج بمكنسة وأخذ يكنس أرض المقهى في صمت . بدأ بعض الزبائن يدخلون المقهى بوجوه شاحبة ، وهم منكمشون في جلابيبهم الصوفية الرثَّة ، ويدفئون أكفهم بعضها في بعض ، وذلك ليحتسوا كؤوس الشاي الدافئة ، ويُدخِّنُوا بعض أول " سباسي " الكِيف .. استأنفت الحياة عملَها بالخارج . جاء زميله الثاني . ألقى عليه تحية الصباح وسأله عن حاله .
ـ الحمد لله .. الحمد لله .
اشتدت الحرارة في مكان وقوفه ، كما تشتد منذ خمسة عشر عاماً من كل صباح إلى كل منتصف ليل ، وهو يُعد كؤوس الشاي. تحرك في بطنه الجسم الصغير . وخزه . دخل المقهى صديقه القديم . وجهه باش رغم شحوبه . لم يكن قد رآه بعد عودته من المستشفى . سأله وهو يصافحه بقوة :
كيف حالك ؟ ولاحظ أنه ازداد شحوباً عما كان عليه ، وعيناه العسليتان قد غارتا أكثر .
ـ ما المرض الذي شخصه لك الطبيب ؟
ـ قال ـ بعد أن حاول أن يهون الأمر -إنه مرض مستعص على العلاج ، لكن الله رحيم بعباده . ضع أملك ورجاءك فيه ، فهو القادر على كل شيء .
تمتم الصديق ببعض الكلمات. لم يسمع تمتمته ، لأن زبوناً طلب منه أن يعد له كأس شاي مصفى ، وآخر قهوة بلبن ، فانصرف إلى إعداد طلبات الزبائن . كانت النار المشتعلة تحت الأواني تلهب جسمه ، والجسم الحاد اللعين يتحرك في بطنه وعنقه ، ويدور، ويدور، ويدور ..




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى