ثلاث رسائل بين جبران خليل جبران و فيليكس فارس

28 - ثلاث رسائل بين جبران خليل جبران و فيليكس فارس

نيويورك في 22 نيسان (أبريل) 1922

أخي جبران،

انتظرت ليصفو صوتي من غصّة الدُّموع، فما جفّت مناهلها، أردت أن أكتب إليك، مغرّداً، لا نائحاً، فرأيت القلم يَعصيني ، فأطعته.

كدت أسلم نفسي لمبضع الجرّاح لو لم أجد علاجاً أوقف به الآمي التي حملتها ستّين يوماً، فما أبقت لي غير عظام تسيُّرها الإرادة على الأرض، فتمشي.

جبران، إِنَّ رؤيتي إياك عليلاً، كانت أشدَّ عليّ من علَّتي، تعال لنذهب إلى وطن الجسد نحيْيه هناك. إِنَّ للجسم نَزَعات إلى ترابه كما أَنَّ للرُّوح نزعات إلى جوهرها عندما تثور عاصفة الآلام.

تعال، يا أخي، إنّ لنا كلينا في المصدر وفي المظهر جنحاً سليماً وجنحاً مكسوراً، فلنرم المكسورين ولنَطِر بالسّليمين إلى مستقرّ السُّكون..

إِنَّ في روحي إليك شوقاً يشبه الشّوق إلى المقرّ الذي تركت قلبي فيه، هنالك على مرفأ بيروت تتطلَّع عيناي إلى جِنان أرزي وجنَّات بلادي، وقُربَكِ، يا جبران، تتطلعُ روحي إلى أرزها الخالد كأَنّها على شاطئ الكون الحق...

تعالَ لنظفر بالوطنين ونداوي العِلَّتين، إِنَّ هذه المدنيّة التي نالت منك تبريحاً بعد سنين، قد نالت عليَّ بشهور، فتعال نستثمر آلامنا منها تحت ظلال الأرز والصّنوبر إذ نكون هنالك أقرب إلى الأرض وألصق بالسَّماء.

أتيت إخواني المهاجرين، شاعراً، فأراد بعض المتُسّيسين أن يمسخوني نفيعاً، وما كانت استفادتي في هذه الرّحلة غير غصّة في الروح وقَرْحَة في الحشاشة، ولكنَّني أتعزى بقطرات دموع أسالتها كلماتي على المنبر من جفون المهاجرين اخوتي. تلك القطرات هي كلّ غنيمتي : لقد أيقظت شوقاً كاد يموت في رقدته ونبّهت ألماً كاد في هَجْعته يجعل الداء مزمناً عُقاماً. وما من داء أقتل للأفراد والأمَّم من عِلّة لا تؤلم ضحيّتها..

كلّ ما أطلب من القوة المسيّرة العليا، هو أن تقدّر الوصول لي معك إلى بلادنا، فاستند إلى ذراعك وتستند إلى ذراعي، فنتمشّى على مهل بين أوديتها وجبالها، وعلى ضفاف أنهارها ، ونسمع زقزقة عصافيرها، فنفهم ما تٌسرّ الانهار، وما تقول الأطيار، وما تعلن الأنجاد والأغوار.

لقد اشتاقت عيناي إلى مرأى تراب الأرض وما فيه من تجليّات العالم الخفيّ، صدّق، يا جبران، أنَّني ما رأيت زهرة ناضرة، ولا نشقت عَرفاً ذكياً، ولا سمعت تغريد شحرور ولا مرّبي نسيم بَليِل منذ توارت آخر أشعّة رمقتها عيناي على آخر مشهد من أرض الشَّرق بلادك وبلادي.

دَعْ هذه البلاد العظيمة الغنية، وتعال معي إلى بلادنا الصّغيرة الفقيرة حيث لا تتكسّر الزنابق ولا تذبل الأزهار.

تعال، لقد عرف العالم الجديد فيك ما يُتاح للعالم القديم أن يخلق من قوّة في ضعفه، وقد حان الزَّمن الذي يجب فيه أن تعمل هنالك من إخوانك، قرب مقابر الأجداد على أحياء المبادئ السَّامية التي تمخّض الشّرق بها، قديماً، وهي تنتفض اليوم لتسود مدنيّة العالمين في آتي الزّمان.

تعال، لننبّه الآلام الساكنة تعال لتسمعَ سماؤك الصّافية كل ما في أناشيدك من الصّفاء، ولترسُم ريشتك عن الأصل ما ترسمه، الآن عن انطباعات الخيال في قلبك

سلام إليك من أخيك : فليكس فارس"

***

وهذه فقرات جبران :

"أخي فليكس،
لا ليس من الغرائب أن يَريشنا جبّار من جبابرة المظهر بِسَهم واحد في آن واحد، فيصيب منك جناحاً ويُصيب منّي جناحاً. لا بأس، يا أخي، فالألم يد تَكسِر قشرة النّواة لتستنبت لُبابها..

لم أزل رهن الأطباء الأخِصائيين، وسأبقى رهن مقاييسهم وموازينهم حتّى يتمرَّد جسدي عليهم أو تتمرّد روحي على جسدي، وقد يجيء التمُّرد بشكل الامتثال، والامتثال بشكل التمرُّد، ولكنّ تمرّدت أو لم أتمرّد، فلا بُدَّ من الرُّجوع إلى لبنان لابدَّ من التملُّص من هذه المدنيَّة السّائرة على دواليبَ، ومعانقة تلك المدنيّة المستسلمة لنور الشَّمس، على أنّني أرى من الحكمة ألاَّ أترك هذه البلاد حتّى أقطع الخيوط والسَّلاسل التي تربطني بها، وما أكثر تلك السّلاسل والخيوط. وأنت لا تريد أن أذهب إلى لبنان، وأتَّكئ في ظلاله، عاماً أو عامين، ثم أراني مضطراً للـرّجوع إلى الولايات المتّحدة لقضاء مهمّة منيّة أو للنّظر في مسألة كُتُبيّة.
إنّني أريد أن أذهب إلى لبنان وأبقى ذاهباً...

لقد تركت عندنا ذكراً عاطراً..الخ..

أما غطيط بعض المتسيّسين فلا يضرّ ولا ينفع بل يستدعي الشَّفقة، وأنت من المشفقين...والله يحفظك أخاً عزيزاً لأخيك.

جبران

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى