رسالتان من جبران خليل جبران الى أمين الغريب

20 - رسالتان من جبران الى امين الغريب

- رساله خاصه من جبران الى امين الغريب قبيل سفر امين من نيويورك الى لبنان ..

يا اخي امين :

ها قد اوصدت باب غرفتي و جلست وحدي في ظلال سحابه من دخان السكاير الممزوج بعطر القهوه الحجازيه و ما الذ محادثتك , انت الان في الجانب الاخر من هذه الكره الكبيره الصغيره , و انا ما برحت هنا ,انت في لبنان الجميل الهادئ الصغير و انا في بوسطن المفعمه بالحركه و الضجيج , انت في الشرق و انا في الغرب و لكن ما اقربك بعيدا يا امين .. ان البشر يا امين يكرهون بعاد الاحباب و الاصحاب لان ملذاتهم تأتيهم عن طريق الحواس الخمس , اما جبران فقد نمت روحه حتى صارت تشعر باللذات المرتفعه عن استخدام الحواس فهي ترى و تسمع و تحس و لكن بغير العين و الاذن و الاصابع , هي تذهب الى اقاصي الارض و تعود و لكن بغير الاقدام و المركبات و السفن و هي تتنعم الان بأمين بكل ما يرفرف حول نفس امين بعيدا كان او قريبا مثلما تتنعم باشياء كثيره غير منظوره و لا مسموعه . و اجمل ما في حياتنا هو ذاك الذي لا يرى و لا يسمع .
كيف وجدت لبنان؟ هل رأيته جميلا مثلما كان يصوره شوق و خنينك اليه؟ ام الغيته بقمه جرداء يسكنها الخمل بجوار الكسل ؟ هل هو ذاك الجبل الذي تغنت بوصف محاسنه قرائح الشعراء من داود الى سليمان الى اشميا الى جومانوس فرحات , الى لامرتين , الى نجيب الحداد . ام مجموع تلات و اوديه خاليه من الانس بعيده عن الظرف مكتنفه بالوحشه؟ انت سوف تجيب عن هذه السؤالات برسائل طويله الى (( المهاجر )) انا سوف اقرأ كل كلمه منها و لكن اذا كان هناك بعض الاشياء التي لا تريد ان تتكلم عنها امام العموم , اخبرني عنها برسائل خصوصيه لكي اكون شريكا لك بافكارك و مشاهدا بعينك حقيقه لبنان.
انا في هذه لاايام مثل صائ يترقب قدم فجر العيد لان سفري الى باريز يجعل احلامي و اميالي حائمه حول الاعمال الكبيره التي سوف احاول اتمامها في عاصمه المعارف و الفنون. قد اخبرتك يا امين قبيل سفرك بانني سوف اصرف سنه كامله في باريز و انا اخبرك الان بانني سوف اذهب الى ايطاليا بعد انقضاء السنه , و اصرف سنه متجولا بين متاحفها العظيمه و اثارها القجيمه , فـ ازور البندقيه و فلورنسا و روميه و جنى ثم اود من نابولي الى اميركا هي سفره عظيمه هائله تستدعي اهتمامك يا امين لانها ستكون مثل حلقه ذهيبه تربط ماضي جبران المملوء بالكابه بمستقبله المرفوع فوق اعمده النجاح .
انت ستمر بباريز طبعا عندما تعود من سريا و في باريز سنلتقي و نفرح و في باريز سنشبع اميال روحينا من الجمال الذي صاغته ايدي المتفننين , و في باريز سنزور البانتيون و نقف هنيهه على قبر فكتور هوغر و روسو و شتوبريان, و رنان و في باريز سنسير بين اروقه قصر اللوفر و نشاهج رسوم روفائيل و ميكل انجلو و دافنشيي و بارجينو , و في باريز : سنذهب ليلا الى الاوبرا و نسمع الاغاني التسابيح التي انزلتها الالهه على بيتهوفن و فمتر و موزارت و فردي و روسيني . ان هذه لاسماء التي يصعب على العربي ان يلفظها هي اسماء الرجال الذين بنو مدينه اوربا , هي اسماء رجال طوتهم الارض و لكنها لم تستطع ان تطوي اعمالهم العظيمه . ان العاصمه يا امين تستطيع ان تميت الزهور و لكنها لا تقدر ان تبيد البذور , و هذه هي التعزيه التي تسكبها السماء في نفوس محبي الاعمال العظيمه , هذه هي الاشعه التي تجعلنا - ابناء المعرفه - ان نسير على طريق الحياه رافعين رؤوسنا بالفخر و الغبطه .

قد تهللت نفسي عندما قرأت رسالتك من الاسكندريه و كبر قلبي عندما قرأت في (( المهاجر )) و (( المرأه)) عن التكريم الذي لقيته من اخينا " اسعد رستم " في القاهره و سوف يهلل نفسي و يكبر قلبي في داخلي عند استماع كل كلمه عنكما و منكما , و لكن اخبرني يا امين : هل ذكرتني اذ كنت جالسا بين صفوه لبنان و مصر ؟ هل خطر على بالك اسم الاقنوم الثالث الذي ما برح وراء البحار ؟ اطن بان سليم افندي شركيس قد اخبرك عن النتقاد الذي كتبه السيد مصطفى المنفلوطي بشأن (( ورده الهاني )) و نشره في جريده المؤيد ؟ اما انا فقد سررت جدا بالانتقاد لان الانتقاد هو غذاء المبادئ الجديده خصوصا اذا كان قادرا عن رجل اديب مثل المنفلوطي ..

اشغالي في هذه لايام اشبه شئ بسلسه ذات حلقات اخذ بعضها برقاب البعض , و قد تغيرت طرق معيشتي و فقدت شيئا من لذه الانفراد التي كانت تعانق نفسي قبل ان احلم بباريز و بالسفر اليها , بالامس كنت قائما بالادوار الصغيره التي كانت امثلها على مرسح محدود , اما اليوم فصرت ارى تل القناعه نوعا من الخمول , كنت ارى الحياه من وراء دمعه و ابتسامه اما اليوف فصرت اراها من وراء اشعه ذهبيه سحريه تبث القوه في النفس و الاقدام في القلب و الحركه في الجسد , كنت يا اخي مثل طائر مسجون في قفص, ة متا رلضيل بالبذور التي كانت تضعها بد القدر اما اليوم فصرت مثل طائر حريري امامه بهجه الحقول و المروج الخضراء فهو يريد ان يطير سابحا في الفضاء الوسيع ساكبا في الاثيير اشباح روحه و خيالات امياله .. يوجد في حياتنا يا امين شيءاسمى و اشرف من الشهره و هو العمل العظيم الذي يستدعي الشهره و انا اشعر بوجود قوه كامنه في داخل نفسي تريد ان تتخذ لها من الاعمال الكبيره ثوبا جميلا اشعر بان جبران قد جاء هذا العالم ليكتب اسمه بأحرف كبيره على وجه الحياه و هذا الشعور يلازم نفسي ليلا و نهارا , و هو الذي يجعلني ان ارى المستقبل متنفا بالنور محاطا بالغبطه مذ كنت في الخامسه عشره من عمري و انا احلم , و احلم ; و احلم بالمعاني و الميزه الروحيه , ها قد ابتدأت الايام بتحقيق احلامي و سفري الى باريز يزهي اول درجه من السلم الذي يوصل الارض بالسماء .

سوف اهتم في الصيف الاتي بطبع كتابي ( الاجنحه المتكسره ) و هو افضل شيء كتبته لحد الان, اما الكتاب الذي سيولد في العالم العربي حركه هائله فهو كتاب فلسفه ( الدين و التدين ) الذي ابتدأت بتأليفه منذ اكثر من سنه و الذي مابرح من افكاري بمنزله النقطه من الدائره , و سف انجر هذا الكتاب في باريز و ربما طبعته على نفقتي الخاصه.

عندما تكون يا امين في مكان جميل او بين ادباء افاضل , او بجانب خرائب قديمه او على قمه جبل عال, عندما تكون في احد هذه الاماكن , الفظ اسمي همسا فتسير نحوك روحي و ترفرف حولك و تتمتع معك بالحياه و بكل ما في الحياه من المعاني الخفيه. اذكر يا امين عندما ترى الشمس الطالعه من وراء صنين او ن وراء فم الميزاب , و اذكرني عندما ترى لاشمس جامحه نحو الغروب و قد وشحت الطلول و الاوديه بنقاب احمر كانها تزرف لفراق لبنان الدماء بدلا من الدموع , و اذكرني عندما ترى القروي اللبناني يفلح لارض امام عين الشمس و قد كللت قطرات العرق جبينه و الوت المتاعب ظهره , و اذكرني عندما تسمع الاغاني و الاناشيد التي سكبتها الطبيعه في قلوب اللبنانين , تلك الاغاني المنسوجه من خيوط اشعه القمر , الممزوجه برائحه الوادي المنسوجه مع نسيمات الارز . و اذكرني عندا يدعوك الناس الى الحفلات الادبيه و الاجتماعيه لان ذكري عندئذ يعيد الى نفسك رسم محبتي لك و شوقي اليك و يجعل لكلامك معاني مزدوجه و لخطاباتك تأثيرات روحيه . المحبه و الشوق يا امين هما بدايه و نهايه اعمالنا .

و لان و قد كتبت هذه السطور اراني مثل ذلك الطفل الذي رام ثقل مياه بصدفه , لى حفر صغيره في رمال الشاطئ, لكن الست ترى يا امين بين هذه السطور سطورا غير مكتوبه بالحبر ؟ تلك هي السطور التي اريدط ان تستفسر خفاياها. لانها كتبت باصابع الروح , لانها كتبت بعصير القلب , لانها كتبت على وجنه الحب الواقف بين الارض و الكواكب , السابح بين المشارق و المغارب , المتموج ابدا بين نفوسا و دائره النور الاعلى.

ارجوك يا امين ان تلفظ اسمي مشفوعا باعجابي و احترامي امام والدك و ان تتفضل بتقديم تحيتي الى سيدتي والدتك - تلك الوالده التي وهبت العالم العربي قوه كبيره و اعطت لبنان شعله مشعشه و اسعدت جبران باخ حبيب . و ارجوك يا امين ان تنثر سلامي امام اخوانك و اقاربك و محبيك مثلما ينثر النسيم زهر شجره التفاح في نيسان . مريانا تحييك من وراء البحار و تدعو لك و ترجو ان تكون معافى . نسيبي ملحم و ابنته زكيه قد طلبا مني ان اقدم لك سلامهما . الجميع يذكرونك دائما و يشتاقونك يا امين حبيب اخيك .

جبران

بوسطن في 28 اذار 1908

***
رسالة رقم 2 الى امين الغريب

اخي امين :

هذه اخر كلمه اقولها لك و انت في هذه البلاد , كلمه صغيره صادره من قداس اقداس القلب مع تنهيده شوق و ابتسامه امل.

كن معافى كل ساعه من كل يوم من كل شهر . تمتع بالاشياء الجميله اينما رأيتها , و ابق خيالاتها و صداها في قلبك الى حين رجوعك الى محبيك و مريديك قابل عشاق (( المهاجر )) في مصر و سوريا و لبنان و اتل على مسامعهم احاديث اخوانهم المهاجرين , و انشر امامهم ما طوته المسافه الشاسعه بين قلوبنا و قلوبهم و مكن تلك العرى لتي توثق قلوب قلوبنا بقلوب قلوبهم قف على احدى قمم لبنان صباحا و تأمل بطلوع الشمس و انسكاب شعاعها الذهبي على القرى و الاوديه و ابق هذه الصوره السماويه مرسومه على لوح صدرك لكي نراها عندما تعود الينا. تلطف و جر ذكر حنين ارواحنا و تمنيات قلوبنا امام الناشئه اللبنانيه. اخبر رجال سوريا العتيدين بان جميع طائره نحوهم عندما تبلغ بك الباخره بيروت قف على مقدمها و انظر نحو صنين و فم المزاب و حي عنا الجدود النائمين تحت اطباق الثرى و الاباء و الاخوان العائشين فوقه . اذكر جدنا و اجتهادنا في الاجتماعات اعموميه و الخصوصيه قل لهم قم ينشغلون بزرع البذور في اميركا ليستغلوها يوما في لبنان . افعل و قل ما شئت على شرط ان تكون مسرورا لان سرورك هو ما يريده كل لبناني حقيقي في الولايات المتحده الاميركيه . مريانا تهز يدك و تدعو لك .. اذكر اسمي امام محبي (( المهاجر )) في مصر و سوريا و لبنان لعل اسمي يصير ذا نغمه لطيفه اذا ما اجتاز مسامعهم. الى اللقاء يا امين . الى اللقاء يا عزيز اخيك .

جبران
بوسطن 18 شباط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى