محمد بشكار - حبْس قارّة كرْنفال التَّشْويق والإثارة

أجمل الروايات تلك التي تدُسُّ بخفَّة في نفْس القارىء مع اللغم، شيْئاً من حتَّى، ولا يهُم وأنتَ تقرأ، أن يتطاير العقل كباقي الشَّظايا مع كل تفجير لغوي، أجمل الروايات تلك التي تقْلِب الماضي حاضرا أو العكس لتصير عِوض الزمن أنتَ المفقود، هل أحتاج أن أنشِّط الذاكرة بما صنعتهُ بالمُخيِّلات رواية "الصخب والعنف" لوليام فوكنر مثلا، أما أنا فما زلتُ شريدا أبحث عن ضفة ثالثة على جنبات نهر الميسيسيبِّي، أحاول أن أفهم بتموُّجاته المائية إيقاع هذه الرواية، ما زلتُ أنسج من خيالي شراعا أوْسع مِمَّا استعمله السندباد في رحلاته السبع، لأنِّي موقن أن فضاءً حكائياً كالذي أشْرَعه سعيد بنسعيد العلوي في "حبس قارة"، يُغْري باقتراف رحلة ثامنة !
الحقيقة وأنا أقرأ رواية "حبس قارة" ( دار المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء/بيروت)، لم أتورَّط عميقا في السِّير الحياتية لبعض الشخوص مثل "عبد الجبار"، وهي شخصية لا أعرف هل كانت لكثرة عثراتها، ضحيَّة الكاتب أو سخرية الأقدار، والغريب أنَّ عبد الجبار بدأ طالبا ينجز بحثه حول "حبس قارة"، وانتهى إلى ما لم يطلبه من بحثه بأنْ صار سجين هذا الحبس والسبب الإله الأسطوري باخوس، ثمة أيضا شخصية الرسام الفرنسي يوجين دولاكروا، فالجميع يعلم من خلال الألوان الحارَّة للوحاته الاستشراقية، أنه افتُتن بجمال طقس المغرب، سواء في مكناس أو طنجة، ولكن الرَّاوي لا يتوقَّف عند هذه الحقيقة المُسَطَّرة في تاريخ الفن، بل يُحاول الكشف عن البذور النُّطْفوية للرسام، فما أكثر حرْثَه الذي لا يخلو من ذرية في ربوع مكناس.. ألمْ أقل إنِّي لا أحب التورط في الأحداث، وأنَّ مشيئة الكاتب أن يترك القارئ مُعلَّقاً بحبل السَّرد لا يصل برجليه لأرض الحقيقة، فهاهو الرسام دولاكروا قد تخلى عن مُهمَّته التي جاء لأجلها ضِمن بعثة ديبلوماسية للمغرب، وهاهي كل الأسرار قد ابتلعها الكاتب دون أن يروي ظمأنا بجواب، الأحمق من يتورَّط في تتبُّع سيرورة الأحداث والوقائع، لأن الكاتب لا يتوقَّف عن إرباك توقُّعات القارىء، ويسْتهويه أن يضع في طرف الحبل السَّردي أكثر من جَزَرة، يخْلطُ أوراق اللَّعب ولا يُهمُّه أن يبدأ حيث ننتهي بالقراءة، وماذا ننتظر أن يكون أفق الانتظار في رواية شُيِّد بناؤها الحكائي على حبْس سوى جدار!
أعترف أني أتحاشى في الرواية وقائعها وأحداثها ولو اتَّسقتْ في قالب حكائي يضطرم بعناصر التشويق، يكفي ما أعيشه يومياً من وقائع تزدحم في الرأس وتجعلُه يغْلي كالقِدْر على نار غير هادئة، يَهمُّني في الرواية اللعب باللغة والصُّورة التي لا تخْطر على خيال، وتسْتهويني الشَّخْصية التي تصبح بكلمة واحدة قيلت هنا أو هناك هي البطل، ولو لم يُعِرها الكاتب في الهرم الروائي إلا الهامش، ولا أستمرىء حبكة تُحْكِمُ معمار النص كما لو تبني سوراً من الجص، وتجعل القارىء يمتثل لهذا التَّعاقد السَّردي في عالم مُغلق، أجمل الروايات ما يجعلني أخرج من النص وأعود إليه من حيث أريد، دون أن يطرأ خللٌ حين في لحظة سهْو ينفصل اللاحق عن السابق !
لم يخْتر الأديب سعيد بنسعيد العلوي عنوان "حبس قارة" اعتباطاً، إنما عن وعي مُسبَق، فهو ليس بالعنوان البسيط الذي تصله بالقطار أو السَّيارة في رحلة سياحية إلى مدينة مكناس، وليس قريباً من اليد على ظهر الغلاف، إنما هو عنوان ستكتشف بعد أن تنتهي من الرواية، أنَّه يُضاهي أخْطر المتاهات المُتخيَّلة التي أبدعها كبار الكُتاب، ويَحْضُرني هنا كتاب "المرايا والمتاهات" لبورخيس، أليس أيضا حبس قارة الإسماعيلي أكبر متاهة لانهائية بمداخلها ومخارجها في جوف الأرض، لذلك ربما يَنْقلنا الكاتب من حكاية لأخرى بما يتناغم مع خُرافية المكان، دون أنْ نظْفَر في أوَّل السَّرْد أو آخره بالحقيقة المُطَوَّقة بالأسوار، بورخيس أيضا قال بلسان بطل قصته "كتاب الرمل": لقد غدا من الشائع اليوم التأكيد على أنَّ كل خُرافة خارقة هي خرافة حقيقية، ومع ذلك فخرافتي حقيقية"، كذلك هو الشأن بالنِّسبة لحبْس قارّة، فهو واقعي ولكن ما أكثر الأحاجي والخُرافات التي انْتَسجتْ حوله وما زال المِغْزل يدور بالصُّوف، ولن أجازف إذا قلت إن المعمار الحكائي للنص يكاد يحاكي الطراز السِّرْدابي للحبْس، فلا نخرج من حكاية إلا لندخل في أخرى مفتوحة لا تكتمل، تُرانا في متاهة ضائعين في السراديب السفلى لحبس قارة، أم نقرأ "كتاب الرمل" لبورخيس الذي قال:" بأن كتابه يُسمّى كتاب الرمل نظرا لأن الكتاب والرمل، كلاهما لا مبتدأ لهما ولا نهاية ". هذه الرواية أيضا بعوالمها المُتشظِّية دون أول أو آخر، ألمْ أقل إنَّ الكاتب لم يخْتر اعتباطاً هذا الحبس التاريخي ليُنشىء على بنيانه الرمزي روايته الرائعة، بل ليجعل القارىء سجين خياله بما يجْترحُه من احتمالات.. أما أنا فما زلتُ أنتظر أن يصدر سعيد بنسعيد العلوي حُكماً قاضياً بإطلاق السَّراح !
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 23 دجنبر 2021.






1640266253407.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى