محمد بشكار - أمينة أوشلح تُضمِّد بديوان جدِّها الجرح

كمَا يصْنع اليمام الزَّاجل حين يطوي جناحيه ليختصر السماء في خفْقة، ثم يحُط على أقرب شُرْفة ليلقي عليك التَّحية بلُغة الهديل، زارني أخيراً بِمقر الجريدة أحد رُواد الزَّجل المغربي الشاعر أحمد لمسيح، ولمْ يكن وحيداً بل ترافقه زوجته الكاتبة والباحثة أمينة أوشلح، هل ثمة لغةٌ أبْلغ من دَارِجتنا المغربية للقول إنَّ السيدة أمينة لم تكن هي أيضا وحدها، بل تحمل وافداً جديداً لِعالمنا تجاوز الورق إلى الأرق، جاء بدرس بليغ يُعلِّمُ كيف يتعامل الأحفاد مع الإرث العلمي والأدبي للأجداد !
أعترف للِصُّدفة بالإبداع وهي تضع في يدي كتاب "ديوان عبد الرحمان الآيسي الكدورتي: بين الجد والحفيدة" (مطبعة دار المناهل بالرباط)، والذي أنجزته تحقيقاً وتقديماً الأستاذة أمينة أوشلح، ويكْتسِب هذا التَّحقيق عُمْقه من عمق المسالك الضَّيقة والفِجاج المُفْضية إليه رغم وُعورتها، وما أشبه رحلة الباحثة في ربوع سوس الرابضة بجنوب المغرب، برحلة من يُريد أنْ يسْتَجْمِع أطراف خريطة موزَّعة في كل الأنحاء، لِتتَّضح ملامح الطريق الى الكنز، وما هذه الخريطة سوى أوراق مخطوطة في حقيبة خضراء، وما الكنز إلا ما تبقَّى من الإرث الأدبي لجدِّ الباحثة العالم والشاعر عبد الرحمان الآيسي الكدورتي، ولن نُبالغ إذا قلنا إنَّ هذا التحقيق مكتوب بنفَسٍ روائي رغم واقعية المعلومات التي تجعل خيالَنا يرجع لجادَّة الصواب، ولكن مع ذلك تشْعُر بذات الكاتبة تنْبَثُّ مع كل كلمة تخطُّها، تخرج من فضاء لتضيع في آخر ويتَّسع الشَّغف للمعرفة باتِّساع الأمكنة، ولا أعرف لِمَ ذهني شطَّ بالتفكير أبْعَد مِمَّا يقترحُه الكتاب للقراءة، رُبَّما لأنَّ عوالمه لا تُوجد فقط على أرض الواقع، بل تَنْتصب بكل تضاريسها في مواقع تسْكنني وِجْدانياً ولو لم أعُدْ من سُكَّانها بالجسد !
ألَمْ أقُل إنَّ زيارة لمسيح تحمل معها (رِيحْةْ لْبْلادْ)، ذلك أنِّي كلما فَتحتُ صفحةً في هذا الكتاب، إلا ويَنْفتح معها فجٌّ سحيق في الروح قبل الجغرافيا، كأنِّي أستعيد خطاي القديمة على أرض لا ينْسلِخ لون ترابها من جلدي، أسْتَعِيد كل الأجْرام الَّتي تَدور مُحلقة في فَلَك منطقة سوس، أراهُ من بعيد يُشِعُّ بأنْبَغ العلماء والأدباء رغم طوْق عُزلته عن العالم، سوس التي ما زالت رغم تغيُّر معالم المنطقة راسيةً رُسُوَّ الأقدام المَهيبة لجبال الأطلس، عجباً كيف تمتلك كل كلمة في هذا الكتاب قوة دفْعٍ مَوْتورة بالحنين، كل كلمة تُفْرِد أكثر من جناح يجعلني أحلِّق إلى أقاصي سوس، هناك في أعالي المداشر بين السماء والأرض، تصلُ الحضارة عصاميةً بالعلم والفقه والشعر والفنون دون أن يصل المدينة أقصر شارع، هناك حيث خلف الجبال تكمنُ أكثر من نشْأة للحياة كأنها تُحقِّق الأبد في أصغر بلد، تحديدا في النقطة التي يتوقَّف في إسفلتها الكودْرُون !
كأنِّي بالباحثة وهي تُحاول أن تفُكَّ بتعبيرها "المخطوطات الممزَّق أغلبها والمُلْقاة في قعر الحقيبة دون عناية"، أرْبط بهمزة وصلٍ تطرِّز منديل الحنين، بين الماضي والحاضر الذي اجتثَّ أشجار اللوز والأركان والزيتون من الجذور، لكن هيهات أن تسقُط مداشر منطقة سوس رغم أنها مُعلَّقة في خاصرة الجبال، هيهات أن تنْجرِف للسَّفْح مهما اشْتدَّ السَّيْل، لأنَّ على مثل هذا الكتاب تَسْتند ذاكرتنا الثقافية ولو نبتتْ بين الأحراش معزولةً عن العالم، وتسْتعيد بعضاً من وعيها حين تنْبري حفيدةٌ كأمينة أوشلح لتبْعَث للحياة أوراق جدها الذي يُعتبر أحد علماء سوس الأفذاذ، وقد استحضر أثره الشعري العلَّامة المختار السوسي في الجزء الثامن عشر من كتاب "المعسول"، ولم يَكُن عمل الباحثة بالهيِّن وهي تبعث الكلمات من رميمٍ في مقبرة مخطوطات بالية، يا لَهذي الكنوز الشعرية والنثرية أيضا التي توثِّق بمداد صمْغ يجري على قلم مَنْحوتٍ من القصب، لمرحلة من تاريخ المغرب تقع بين سنتي 1871 و1938، صحيح أن الشِّعْر لا تنْجلي ملامحه إلا على يد من صوَّره على الورق، ولكن يتَّضح أكثر على يد من هرَّب الحقيبة الخضراء قبل أن يعبث الزمن بكنوزها المخطوطة، ولا غرابة أن تحمل تلك اليد اسم أمينة !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 20 يناير 2022.




محمد بشكار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى