عبد الحميد البرنس - فرج وامرأة

في منتصف ظهيرة يوم آخر، طرق أحدهم باب شقة حامد عثمان، فتبدد حالا، على عتبة الصحو تلك، أحد أكثر أحلامه غرابة. وقد رأى نفسه، إذ ذاك، وهو يعثر داخل غرفته نفسها، على فرج امرأة، تعلوه عانة حديثة النمو، في الرف الأعلى، من دولاب الملابس، وقد تمّ لفّه، لسبب غير مفهوم، بملاءة بيضاء نظيفة.
حمل حامد عثمان الفرج، ببراءةِ طفل، وسار به، في طريقه ذاك، إلى الجلوس أمام باب البناية، حيث التف حوله، على الفور، سروجي السيارات والحلاق وصاحب البقالة والجزار اللعين، الذي بادره، قائلا:
"ما الذي تحمله باسم الأمانة ملفوفا، بين يديك، بهذه الملاءة البيضاء، أيها الغريب؟".
قال حامد عثمان:
"فرج امرأة".
تبادلوا فيما بينهم النظر.
وقد تقاربت رؤوسهم.
تهامسوا..
وكما لو أن لهم جميعا فما واحدا، سألوه:
"هل تعمل الآن مثل قواد، أيها الغريب؟".
قال حامد عثمان
"أبدا".
قالوا:
"إذن؟".
قال:
"لا بد أن صاحبته في حيرة من أمرها، الآن".
قال الجزار:
"كما لو أن في الأمر خدعة، أو مؤامرة، أيها النّاس".
استوضحه صاحب البقالة، قائلا:
"إزاي؟"
تابع حديثه ذاك، وهو يستوضح لهم الأمر، قائلا: "أية امرأة، أيها السادة العقلاء، قد تنسى، بحق السماء، مثل تلك القطعة الخاصة، بل والحميمة جدا، من جسدها، داخل دولاب رجل عزب، في مثل خبث ودهاء هذا الغريب؟".
لم ينتظر الجزار أن يجيبه أحد، حين واصل عرض تصوراته حول الفرج النسائي المقتطع من أصله، قائلا: "لا بد أيها النّاس للحاج إبراهيم العربي أن يعلم بمدى خطورة مثل هذه المسألة على حارة". أراد حامد عثمان، بطيبةِ أشبه بعلامات قلة الحيلة، أن يقوم بتحذير الجزار، من مغبة قراره الأخير، أي بالذهاب، بقدميه، بل وعن طواعية تامّة، لملاقاة الحاج إبراهيم العربي. فقال ينبهه: "يا هذا الأخ الفاضل: رجاء لا تذهب. فالحاج إبراهيم العربي تناول البارحة حساء، سبب له عسرا في الهضم، والأغلب أنّه يشتبه في أن يكون الحساء اللعين مطبوخا من لحم الحمير، وهو يسعى من وقتها حثيثا كما أعلم لقتلك". إلا أن حامد عثمان لم يجد (فجأة) فمه هناك.
هكذا، بصعوبة تامّة، نهض حامد عثمان، من سريره، وكان قد تبين له صوت الرفيق معاوية الكامل، وهو يتناهى، من وراء باب الشقة المغلق، مصاحبا ذلك الطرق العنيف المتلاحق. أخيرا، وهو بالكاد يرى أمامه من عشية نور الشمس المتدفق عبر مدخل البناية، أطل حامد عثمان من الباب، فسأله الرفيق معاوية الكامل كالمعتذر، قائلا:
"لا بد أنني أيقظتك الآن، من النوم، يا رفيق؟".
مد حامد عثمان يده مصافحا.
وقال:
"أبدا".
وهو يفلت يده، ويفسح مجالا تاليا لدخول الزائر، واصل حامد عثمان بعفويّة:
"كنت بحلم".
كان جو الغرفة راكدا ومختنقا برائحة النوم الثقيلة.
فقال الزائر:
"إن شاء الله خيرا، ماذا رأيت، في نومك، يا الرفيق".
فقال حامد عثمان الذي بدا كما لو أنّه استيقظ تماما:
"لا تشغل باللك، يا رفيق. مجرد حلم آخر".
وأخذ يدعك عينه اليسرى.
فقال الرفيق معاوية الكامل:
"على أية حال، يا رفيق!".
وخيم الصمت.
وصل معاوية الكامل، منذ سنوات، إلى القاهرة، قادما من ليبيا، بسمة شخصية شديدة الوضوح، وقد تمثّلت، بجلاء شديد، في "عينيه الحزينتين"، وفي شعوره الطويلة، كشعور فتاة مهملة. أو كما لو أنّه ظلّ يحمل لسنوات صليب العالم على عاتقه. كيف لا، وقد تعهد، منذ نحو أكثر من العقد، وتحديدا عند أهوال تلك اللحظة التي علم فيها بموت رفيق مقرّب تحت غائلة التعذيب، ألا يقوم بحلاقة شعره وشاربيه وذقنه، قبل زوال "الحكم الديكتاتوري" القائم، "في الخرطوم". لقد كانت مسألة ثأر لا يغتفر. أخيرا، سأله حامد عثمان (وصوت المطرب حكيم يركض بالغناء هاربا من نافذة عربة تمخر شارع الحارة المترب) قائلا: "ما وراءك، يا رفيق معاوية؟".
كان معاوية الكامل لا يزال يتفحص محتويات شقة حامد عثمان، بعينين تخفيان، بأكثر مما تعلنان. ففكر حامد عثمان: "لم يسبق لمعاوية الكامل هذا أن زارني"، وتابع تفكيره: "لابد أن أحدهم أوصله إلى باب شقتي واختفى"، ثم هجس حامد عثمان فجأة: "أو لعل التنظيم يشتبه أن لي علاقة مريبة مع السفارة". وكان الشائع عن معاوية الكامل، الذي ظل يخفي هويته الحزبية بوصفه كادرا سريّا حتى وقت قريب؛ أنّه يتمتع بموهبة التحري والتقصي الأمني الدقيق. وحدث أن نسي اللورد الفقير أوراقا حزبية، حوت قائمة بأسماء الكادر السري للحزب، في صالة شقة عشيقته أم خميس صانعة العرقي. حدث ذلك ليلا. ما أن أصبح الصبح، حتى ذاع صيت معاوية الكامل، في مشارق الأرض ومغاربها، ككادر يساري متخفي. ثم لكأن معاوية الكامل قرأ أفكار حامد عثمان المتكونة للتو، ابتسم وقد آثر أن يعمل على تهدئة هواجس صاحب الشقة، بسؤال غير متوقع بالمرة، قائلا: "ما صلتك إذن بمها الخاتم، يا رفيق حامد". خفق قلب حامد عثمان لمجرد ذكر اسمها. إلا أنّه سرعان ما تمالك زمام مشاعره، قبالة وجه الرفيق معاوية الكامل المتجهم ذاك، قائلا:
"علاقة سطحية. ما الأمر؟".
لم يجب معاوية الكامل حالا. وقد أخذ يتفرّس فقط في وجه حامد عثمان. لكأنّه يقيس درجة الصدق في حديثه ذاك. وتذكر حامد عثمان خطفا أنّه سبق وأن قابل مها الخاتم منذ بضعة أيام. في مكتب "ضحايا التعذيب"، في شارع محمد فريد. بدت لحظتها مستهلكة ومتعبة. وكان لها لحيرة حامد عثمان ضحكة مومس خارجة للتو من سياق أحد الأفلام المصرية القديمة. إلا أن في صوتها ذاك قسوة. أما شعرها الحليق فقد أضفى عليها مسحة غلامية. وتذكَّر حامد عثمان وقتها، وهو يشعر بفداحة المقارنة، أولَ لقاء جمعه بمها الخاتم منذ سنوات في باحة مكتب الأمم المتحدة بحيّ المهندسين. ثم من بعد تفرّسه ذاك، في وجه حامد عثمان، أخذ معاوية الكامل يناور، متجاهلا سؤال حامد عثمان المتقدم ذاك، بسؤال آخر، قائلا بالنبرة البوليسية التحقيقية الجافة تلك نفسها:
"ما صلتك إذن بالمدعو جمال جعفر، يا رفيق؟".
والحيرة لم تفارقه بعد، أجاب حامد عثمان، قائلا:
"كما تعلم، كانت تربطني به اللقاءات العامة لخلايا الحزب والندوات السياسية والكل يعلم أنّه كادر بليغ وهو يتمتع منذ مدة كما تعلم بوضعية اللاجئ السياسي في أمريكا".
دوَّن معاوية الكامل على ورقة بعض أقوال حامد عثمان، مع أنّ حامد عثمان كما اعتقد "لم يقل ما يستحق التدوين". كان يعتقد أنّه يثرثر فقط لإخفاء آثار زيارات مها الخاتم له، وعناقه لها، في أثناء ممارسة عاداته السريّة. ودار في ذهن حامد عثمان أن "تقرير الرفيق معاوية الكامل هذا"، سيتمّ رفعه، في القريب ولا بد، إلى الهيئات التنظيمية العليا للحزب. وأخذ يغرق في بحر تفسيراته الصامتة أعمق فأعمق، إلى أن علا صوت معاوية الكامل، وهو يتساءل، وكذلك على غير توقع منذ أن جاء وأيقظه، قائلا: "هل لديك ما يؤكل، يا رفيق؟". قال حامد عثمان: "لا، يا رفيق". وداهمه جوعه المزمن المستعصي ذاك دفعة واحدة. ثم أو على غير توقع آخر، قال معاوية الكامل: "هيا بنا، إذن، يا رفيق". وأغلق حامد عثمان باب الشقة وراءه.
كانت مسائل مثل تنظيف الأسنان في تلك الأيام نوعا من الترف. وبينما يلحق بخطى الرفيق معاوية الكامل السريعة الواسعة، رفع حامد عثمان يده بالتحية للحلاق، ورد تاليا تحية المعلم حمدي الدهان بإيماءة مماثلة من الرأس، وأمكنه أن يرى "جزار الأمانة" مغلقا لا يزال، بالشمع الأحمر، فتذكر حلمه العجيب ذاك. وحتى تلك اللحظة المترعة، بأمل اللقاء القريب جدا، بذلك المستحيل المدعو "الطعام"، لم يدرك حامد عثمان حجم فجيعته الشخصية، هو نفسه، التي انطوى عليها تحقيق معاوية الكامل ذاك. أما معاوية الكامل، فلم يتفوه، بأي شيء آخر، إلى أن دلفا إلى داخل "مطعم الطيب" القريب، من شارع أحمد عصمت، حيث طلب معاوية الكامل لنفسه ولحامد عثمان ساندويتش طعمية، وحيث جلسا إلى مائدة داخلية، وتابعا الأكل في صمت، وأكثر ما شغل حامد عثمان في الأثناء أن يقوم معاوية الكامل بدعوته إلى تناول ساندويتش آخر، وهو ما لم يتمّ. هناك، خارج المطعم، مد معاوية الكامل يده مودعا رفيقه في صمت، ثم اتجه بالخطى الواسعة السريعة نفسها صوب محطة المترو، وقد اقتسم قبلها مع حامد عثمان آخر سيجارتين كان يملكهما. كان حامد عثمان يشفط أنفاس سيجارته بشراهة، في طريق العودة إلى الشقة، لحظة أن دهمه إحساس كثيف بالحزن، ذلك أن شعر رأس الرفيق معاوية الكامل وشاربيه وذقنه سيتبعونه، والحال تلك من الضعف السياسي العام، إلى القبر الفاغر هناك، في الجوار القريب، لا محالة.

comerre-leon-francois-1850-191-orientale-au-tambourin-1352012.jpg

comerre leonfrancois - orientale au tambourin

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى