صفاء عبد المنعم - جنة العشب.. قصة قصيرة

لم تكن تدرك تماما، مدى اندهاشها، وبهجتها، وشغفها بطفولية.. لرؤية الأشياء عندما شاهدت الصحراء الممتدة في وقار ووحشة أمامها. ومن آن لآخر تخرج رأسها من شباك السيارة (الشروكي) وتشير بإصبعها: شوف بابا، الصحراء واسعة. يهز رأسه تلقائيا دون أن ينظر: آه طيب. ثم تواصل هي نظراتها وفرحها بالإمتداد، والرمل الذي يبرق مثل التبر. والسائق الذي لا يلتفت يمينا أو شمالا يسوق بهدوء منسجما مع نغمات الأغنية "يا مسافر وحدك وفايتني ليه تبعد عني".. كان الصوت هذه المرة، هو صوت نجاة الصغيرة، بحنانه، ودفئه الهادئ.. تغني بشجن زائد، زاد من حلاوة الكلمات واللحن، انتبهت فجأة للصوت، وأخذت تقارن بين صوت عبد الوهاب ونجاة في الأداء والامتاع. نظر السائق من خلال المرآة، وجد الرجل يغط في نوم عميق، وهي ما زالت عيناها على الخارج، واللحن دافئا. رفع السائق صوت المسجل قليلا، وزاد من درجة التكييف، فانبعثت رطوبة حلوة، جعلتها تسترخي قليلا، ومدت ساقيها. سمعها تردد بصوت خفيض: يا سلام.. الدنيا جميلة جدا، لماذا حرمتني منها كل هذه السنين؟ رن الموبايل، فتحت الخط، وأخذت تتحدث، وتهز رأسها نفيا وإيجابا، ثم انفعلت وأغلقت الخط. وأغمضت عينيها وهي تستمتع بالصوت الهادئ لنجاة. كانت لأول مرة تسمع هذا اللحن بصوت نجاة تحديدا فضمت شفتيها مندهشة: صوتها جميل. وامتلأت عيناها بالدموع فجأة، ثم نزلت علي خديها مثل دش ساخن. السائق مازال يراقبها صامتا من خلال المرآة والطريق أمامه طويل لا ينتهي. والأب يغط في نوم عميق. مد يده إلى علبة المناديل، وأخرج منديلا وأعطاه لها: ولا يهمك يا هانم. بكره الأولاد يرجعوا. احمرت عيناها، وأخذت المنديل، ومسحت الدموع. - اشتقت إلي الأولاد.. وأبوهم عنيد. وجد السائق منفذا للحديث معها. فكم نظر إليها طويلا وهو يراها تكبر وتنمو أمام عينيه. - يا سيدتي من باعك بيعه. - ليس بهذه البساطة. كانت الأشياء في الخارج تتوارى وتجري أمام عينيها في سرعة. وعندما اقتربوا من مكان به بعض الأشجار المزروعة والمعتنى بها. ركن السائق العربة وقال لها: ما رأيك في قليل من الشاي. وافقت بهزة من رأسها، ثم أيقظت أباها. - بابا.. بابا . تعال اشرب الشاي. نزلوا جميعا من العربة، وجلسوا على كراسي من الجريد، وتقدم منهم شاب، فطلبوا جميعا شايا. هز رأسه، ومسح المنضدة بفوطة في يده. الهدوء والصمت والصحراء الشاسعة. تنهدت. - يا بخت إللي عايشين هنا! - ضحك السائق بصوت مرتفع: الصحراء هي الصحراء. والجنة من غير ناس ما تنداس. لم تعجبها الإجابة وتنهدت. - الناس؟! - ضحك السائق وخبط كفا بكف. - الناس هي يا سيدتي. الأب من كلامهما، وقام واقفا وهو يتجه نحو العربة: الدنيا حر. عادوا للعربة ثانية. وكل منهم بداخله هواجسه الخاصة به. والتكييف يبعث رطوبة صناعية هادئة. وعيناها مازالتا على الخارج، تتابع مرور الصحراء من أمامها. تذكرت وقفته طويلا أمام المرآة وهو يستعرض جماله والأزرار والنجوم الذهبية علي كتفيه. كانت البنات في المدرسة الثانوية يتحدثن سرا ويتهامسن بينهن: تزوجت ضابطا. وتقترب إحداهن منها وهي تلمس شعرها بخفة. قوليلي يا هانم.. وماذا عن المدرسة؟ تهز رأسها: لا أعرف. بابا. بابا. تضحك البنات باستخفاف، وتغمز كل منهن للأخرى. - بابا.. ولا ماما؟! - تهز رأسها بطيبة. - العريس قريبنا. لكن! - تصنع البنات دائرة حولها، وهن يضحكن علي طيبتها التي تصل حد السذاجة. تنظر إحداهن في عينيها وتضحك. - جسمك يليق بمانيكان.. موديل خطير. الهانم المبهورة الآن بالصحراء والهدوء والعزلة، وصوت الراديو يبعث فيها حنينا ما وتيارا من الشعور الدافئ الغامض لا تستطيع السيطرة عليه. منذ عشرين عاما. لم تكن تعرف ماذا تريد بالضبط لم تكن تشكلت ذائقتها وآرائها، كانت تعامل علي أنها طفلة جميلة مدللة، لا تعرف مصلحتها جيدا. الآن أدركت تماما مدى القسوة التي كانت تعامل بها في تهميش مشاعرها. فهي تدرك جيدا ماذا تريد؟ ماذا تفعل؟ تريد الأولاد مهما كلفهاذلك من تنازل عن المال، والسلطة والقوة، والقيمة النفسية. في ليلة كانت عائدة من حفل عيد زواج إحدى صديقاتها ورأته.. رأت كما يرى النائم وجها بشعا لزوجها، والكرباج في يده يضرب الجنايني بقوة وعنف، لم تعهدها فيه من قبل. داخل الرقة المغلفة بالطاعة والصمت التي يظهرها دائما. أمسكت الكرباج من يده، وصرخت فيه. - حرام.. حرام عليك. - ضحك، ضحكة استفزتها. - يا هانم هؤلاء حمير. منذ هذه اللحظة، كشف عن وجهه، وجه آخر لا تعرفه، وكشفت مدى كرهها له، وأنها كانت لم تعرفه جيدا


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى