د. صلاح هداد - تداعي.. قصة قصيرة

غادرت المنزل في عجالة بحثا عن السلوى، وتغيير كيمياء المزاج ،والترويح عن نفسي التي كدرها ضنك العيش، وقسوة الحياة ،ومشاغلها المتتالية في حلزونية مملة مشيت في ذات الشارع المشبع برطوبة العبثية ،وبالدراما السوداء ،والمواقف المتناقضة، والوجوه التي تنزف نظرات متيبسة بلا معنى ،هو ذات الشارع الطويل المتموج المفعم بالندوب والحفر والأخطاء الهندسية ....رغم قناعة الجميع ،و أن المهندسين صفوة المجتمع وخلاصة العقول المميزة، أو هكذا يعتقد أهل بلادي بكافة طبقاتهم نخبتهم وعامتهم ونساءهم ورجالهم... تتوالى الصور في إيقاع رتيب ومبهم توقفت في حيرة ربما بلاهة أتفرس ما حولي وأحدق في فلوات الحزن الممتد بلا نهايات ،استقرأ في ألم ممض تلك الشخوص الواجمة المتناثرة كأحذية القرويين في مسجد البادية ،أو خيمة العزاء، شخوص تزرع سطح الأرض جيئة وذهابا،حفاة ومنتعلين ،وأتأمل تلك اللوحات التشكيلية الفطرية التي تتزاحم فيها صور متباينة أطفال كالبراعم الغضة ينتشرون كالذباب في جنبات الطريق يمسحون الأحذية أو ينقبون مكبات النفايات، أو يختلسون غفلة الجرسون ليسرقوا فضلات رواد المطاعم ....وأشرار تسكن دواخلهم الخسة والوحشية والشهوة يترصدون السوانح لا رتكاب الفظائع ....وعلى ذات الطريق تتناثر أسراب من الغيد في عمر الزهور زاهيات كالزنابق المتوردة يتمايلن في شرود ويأس ،وربما تمرد يستنشقن نسيم الحرية والغرام الرخيص ،وعلى قارعة الطريق في الجانب المنزوي تنهض مقاه متهالكة وعتيقة تتكدس فيها أجساد منهكة تتعاطى الشاي والشيشة ، وتتبادل النظرات التائهة والاستغراق في أحاديث لا تنتهي ،تطلق القهقهات من أسنان قهرها ونخرها دخان السجائر وقهر الزمن ،وغير لونها صدأ السعوط ،وعلى مقربة من محل ست الشاي تزمجر سيارات فارهة يقودها شباب في منتهى المياعة والتخنث يمضغون العلك ينهبون الأرض في سرعة هستيرية تنفجر منها أغان ماجنة هابطة وصخب موسيقي غربي... أه من زماني ....أمام المقاهي والأسواق الفارهة وأسواق البؤساء ،ترنحت قدماي شعرت بالتعب والإعياء تعب يكاد يدمر مهجتي الموزعة بين المعاناة والفجوة المعرفية ،تنحيت جانبا فإذا بحديث النفس ينهمر كالسيل... تبا لهؤلاء الأوغاد النرجسيين، لست أدري ما الذي يدفعني لمقتهم وبغضهم أهو الغيرة أم الحسد أم إرضاء الذات ،ليس مهما ذلك في هذه اللحظة ..إنما المهم أن أصل لفك شفرة تلك الأمواج البشرية الهادرة كالجلاميد المتساقطة من ذرى سوامق تدور بين المد والجزر بلغة يألفها البحر في تسياره السرمدي ويجهلها البحار الذي ينفق جل وقته في تنغيص سعادة الأسماك .. أحسست بالتعب ينتابني يتسرب إلى أوصالي رويدا ...رويدا مثلما يسري في العروق عقار طبي ، كانت هي دائما أو يخيل إلى ذلك تلوح بمنديل تفوح منه روائح الصدق والتفاؤل ...تدنو مني توقظني من توهاني ...وتعيد لي بعض ما أفتقدت من تماسك وحضور ووعي ..نهضت في جنون كي أقبل رأسها لكنها .....تفلتت وتسربت وتلاشت... لست أدري أين ذهبت كل ما اعرفه أنني كلما ما دنوت منها لأقبلها... وأزين معصميها بجرتق الفرح شعرت بأنها تعلو وتعلو وتطير ولا أقوى على اللحاق بها ...كان في عينيها سر شفيف لم أتمكن من قراءته أو حتى ترجمته ،وعندما أعياني الوصول ....تركتها إلى حين ..وأخذت أواصل حواري الداخلي فإذا بعاصفة من الريح تهب على المدينة، فيعترى المكان طقس من التغيرات... وفجأة ورقة من صحيفة من صحف تلك البلدة المتشابهة البيضاء والصفراء ...والخالية من كل ما هو مفيد وجيش من العاطلين تهجموا على بلاط صاحبة الجلالة ...أمسكت بالورقة التي استخدمت سفرة للطعام قبل لحظات ...تناولتها ونفضت عنها الغبار فإذا بخبر يهز كياني "وحش بشري يغتصب طفل منغولي ..." لحظتها شعرت باهتزاز العرش فوق السماء ....قلت كيف للنفس الآدمية أن تنحدر إلى هذا القاع .تجاوزت ذلك ومضيت اعمل تفكيري وأعيد ترتيب ذاتي لماذا وكيف ومن ؟وأين ؟ أسئلة لا أنتظر عنها إجابات فلو كان هناك عقاب أقصى من المقصلة ما ترددت في إنفاذها لمرتكبي هكذا فعل ....الأرض من تحتى تغلي فقلت حسنا للأطفال رب يحميهم ...وخلعت نظارتي فإذا بالحاجة ذات السبع عقود بخيبة عز الأهل.. الخاتنة ...هكذا ينادونها ..امرأة متنفذة تمتلك ملامح كاريزمية الكل يحترمها ...وبدون مقدمات تقف أمامي أتذكرها بملامحها الجذابة وعلبة سجائرها ورائحة الخمرة والمسوح وقفت أمامي فتذكرت تلك الأيام زغاريد تنطلق من هنا وهناك وأحزان كالشلال تتدفق في شرايين الصغيرة وهي عاجزة عن التعبير كانت في قرارة نفسها تكره من حولها لا حقيقة كانت تمقت من حولها ....فصرخت من أعماقي الحاجة بت عزالأهل أما زلت في غيك وإجرامك !!لكم اقترفت يداك الجرم ولكم شوهت أمواسك وسكينك البراءة وجرحت الطهر!! ..لا لا يا ولدي أنا تبت لله وما قمت به كان بدافع أكل العيش وستر الحال ولكن الآن قد وعيت وحجيت بيت الله .رفع رأسه وحدق فيها بنظرة عميقة وقال : سلام الله عليك بت عز الأهل .
ثم تركتها ...وواصلت مسيري إلى أين لست أدري ..هذا موسم انطفاء الجهات ...اصطدمت برجل أعمى رث الثياب ،وأنا أحاول شق طريقي في شارع المليون غبي... يردد كلاما مبهما اعتذرت له ،قبلت رأسه ثم مضيت فإذا بصوت متسول يستجدي السابلة في نبرة مليئة بالأسى والفجيعة فتحت عيناي بأقصى اتساع لها فإذا بطوابير من الشحاذين بمختلف مقاصدهم وسحناتهم وأغراضهم... شعرت لأول مرة بأن الفقر والعوز والحاجة أعداء الإنسان ..مناظر تنقلك إلى حقب لم تعش فيها.. والى حالة لم تسمع بها ،وحوارات فيه الكثير من التابوهات والخطوط الحمراء ...صرخت يا أيها العراب لماذا خبت فيك قناديل الجمال ،وتيبست في عروقك مروءة الحق... ونضبت في مناهلك وضاءة العدل ..مذا تريد مني ؟أن ألقي نفسي في جب المخدرات أم أمارس غواية تكسير الثلج ورزيلة النفاق... أم الاصطفاف في طوابير جوقة الهتافة والمطبلين أم ماذا تريد .؟؟...لماذا لم نعد نستشعر بألم الآخرين ولماذا استغقرقتنا الذاتية فبخلنا وضيقنا المواعين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى