محمد جبريل - جدتي رقيـة

لم تعد جدتى رقية تقدر على النزول من الطابق الثانى ، أو الصعود إليه . عانت تورم قدميها ، وأبطأت الشيخوخة حركاتها . حتى ما كانت تثيره من أسئلة ، لم يعد يشغلها ..
ضايقتها فكرة أنها لن تستطيع الخروج من حجرتها ، هبوط درجات السلم ، السير ـ عبر الشوارع الضيقة والحوارى والأزقة ـ إلى شاطئ البحر ، التطلع إلى الأفق ، حيث شاهدت البلانس يغرق بمن فيه ..
كانت تمضى ـ كل صباح ـ إلى شاطئ البحر . تسحب العباءة السوداء من شماعة الجدار . تتأكد من إحكام الإيشارب حول رأسها ووجهها . تدس قدميها فى الشبشب ، وتمضى خارج الحجرة . فى بالها أن ترى البحر قبل أن تموت ، تحدق فى الأفق ، تواجه ما عجزت عن مواجهته فى غرق البلانس أمام عينيها ..
كانت جالسة على الكورنيش الحجرى لشاطئ الأنفوشى وحدها . الدنيا فى غبشة الفجر . اكتست المرئيات بلون الرماد .
وضعت جدتى رقية كفها على عينيها ، تحدق فيما لم تتأكد من رؤيته فى الأفق : لنش سواحل ، بلانس ، باخرة ركاب . التأرجح فوق الأمواج العالية جذب انتباهها . حدست أن الجسم الطافى يصارع الأمواج ، يقاوم الغرق .
أرادت أن تنبه إلى ما يحدث . خذلها صوتها . شعرت أنها عاجزة عن النطق . أشارت بيدها إلى الجالسين فى المقهى وراءها ، وإلى النوافذ المفتوحة . نزعت الإيشارب الأسود من رأسها . طوحت به . لكن البلانس غرق ، ابتلعه البحر . لم يعد على السطح سوى بقايا الجزء العلوى من الصارى . لما وجدت جدتى صوتها ، كان البلانس قد غرق فى البحر تماماً ..
تغيرت جدتى رقية من يومها . أمضّها الإحساس بالذنب . صارت شخصاً آخر ، ينتمى لدنيا أخرى . تحاسب نفسها ، تناقشها ، تأخذ منها وتعطى ، تعيب عليها ما اعتبرته تقصيراً فى إنقاذ البلانس ..
ـ من لم ينقذ نفساً استغاثت به فقد قتلها ..
ثم فى تألم :
ـ خذلنى صوتى !
احتضنتها أمى بنظرة إشفاق :
ـ لم يكن فى استطاعتك فعل شىء !
لم تصدق ما اعتاد أبناء بحرى قوله ، عندما يغيب البلانس فى الأمواج ، فإن عرائس البحر يجتذبن من يرون اصطحابه إلى عوالمهن فى قاع البحر . عروس البحر تتزوج من تختاره . تنجب منه الأولاد والبنات . لا تعيده إلا بعد أن تدركه الشيخوخة ، معه أموال وفيرة ومجوهرات ونفائس . يحيا على نعمته ما تبقى من عمره . عرائس البحر يجتذبن البشر فرادى . أما الأمواج فتختطف البلانس بكامله . للأمر صلة بعوالم البحر ، ما يحفل به من أسرار وعجائب ..
واصلت جدتى سيرها ـ قبل بياض النهار ـ إلى شاطئ الأنفوشى . تخترق شوارع السيالة فى اتجاه البحر . تجلس ـ صامتة ـ على الكورنيش الحجرى . الموضع نفسه الذى شاهدت منه غرق البلانس . يداخلها تأثر للحظات انبثاق الفجر . اختلاط الظلمة بضوء النهار الوليد يغلف الكائنات برمادية شفيفة . النهار قادم إذن . لن يظل الليل قائماً . يخيفها الظلام . تظهر قلقها إذا علت الإضاءة . تخشى انقطاعها فيقتحمها الخوف . استقر فى داخلها الإحساس أنها ستموت قريباً . تتعمد الكلام لمجرد طرد التوقعات القاسية والعدم . تمتد أحاديثها وتتشابك . تتحدث عما لم نعشه ولا نعرفه . ربما جاء فى مسامرات أبى وأمى ، أو أخوالى ، أوقات الليل . كازينو الأنفوشى ، ليالى رمضان فى حديقة سراى رأس التين ، إعادة بناء أبو العباس وقت الحرب العالمية الثانية ، نزول أول بلانس بالموتور فى مياه البحر . تحذر من أن يجرى السماك جابر الأباصيرى على رقبة الترسة إلا بعد أن يتم بيعها بالكامل . يدفع كل مشتر ثمن ما يريده حتى يكتمل وزن الترسة ، فيذبحها .
ظلت جدتى على حالها من الخوف مما تراه ولا نتبينه . أكثرت من التردد على مقامات أولياء الله الصالحين : أبو العباس ، ياقوت العرش ، نصر الدين ، وغيرهم من الأولياء . تحرص على الاستحمام ليلة الزيارة . تتطهر قبل أن تدخل الجامع . هذه بيوت الله ، وهؤلاء أولياؤه الذين نلجأ إليهم فى طلب النصفة والمدد . تقف أمام المقام . تلمس المقصورة . يتهدج صوتها بأدعية وابتهالات . كتب لها الشيخ فلان خادم جامع طاهر بك ـ فى ورقة صغيرة ـ آيات من القرآن الكريم . وضعها فى كوب ، امتزجت فيه قطع السكر المذاب بماء الورد . تجرعه على ريق النوم . صنع لها حجاباً ، غلفه بما يشبه المحفظة الجلدية الصغيرة . طالب أن تحرص على أن تعلقها فوق صدرها من الجانب الأيسر ، يكون فى موضع القلب . لجأت إلى التعاويذ والعمل وتمائم العين والجعران وخمسة وخميسة . أدارت مجمرة البخور فى حجرات البيت والسلم والقاعة التحتية والمطبخ والحمام . حتى مدخل البيت تضوع فيه امتزاج روائح العود والصندل والمستكة والجاوى والفسوخ والفخمة والشوش الأحمر ..
انشغلت جدتى رقية بالتردد على المشايخ فى أزقة بحرى ، والجلوس إلى الغجريات أمام باب البيت . حياتها فى السحر وقراءة الكف والفنجان والرمل والودع والمندل ، وقراءة السحب والبرق وأوراق الشجر والعمل والنفخ فى العقد والتطلع إلى الرؤيا ، واستحضار الأرواح وتجسيدها . تحدثت عن قوى الجان ، أفلحت فى الاستعانة بها ، خصصت لها الذبائح ، توزع لحمها على الغلابة والمعوزين . تقف على باب البيت ، ترافقها فى خطواتها . تدفع عنها الأذى . سخرتها ـ بواسطة الأعمال المؤكدة التأثير ـ لكى تؤدى دورها ، بالتعازيم والطلاسم والرقى . تصعق المتسللين ـ أو المقتحمين ـ بنيران الأعين ، أو تغيبهم فلا يراهم أحد . عادت بحفنة تراب من مقام سيدى أبو العباس ، نثرتها أمام باب البيت ، وفى المدخل ..
مالت جدتى إلى العزلة . تلزم حجرتها ، لا تتركها . تشغل معظم وقتها بأداء الصلاة ، أو بقراءة الأذكار والأوراد . تساعدها أمى على تناول طعامها ، وعلى قضاء حاجاتها ، وتحممها ، وتجيب عما يشغلها من أسئلة ، وتأخذ منها وتعطى ، فلا تشعر بالوحدة .
كانت تعانى إذا غادرت حجرتها إلى الحمام ، وتجر قدميها المتورمتين . يحزنها أنها أصبحت فى أعيننا بلا فائدة ، وأن البقاء فى البيت هو ما يجب أن تفعله ..
ـ أنا عجوز تنتظر الموت ..‍
قالت أمى :
ـ الموت نهاية كل حى ..‍
ـ أشعر أنى بيت آل للسقوط ..
أردفت فى صوت كالهمهمة :
ـ تأخر الموت كثيراً .. ‍
***
ما رأته جدتى فى المنام ظل يتراءى لها . أدركت أنها لن تنام جيداً. ربما لن تنام على الإطلاق، إذا ظل ما رأته فى داخلها ، تحتفظ به لنفسها. يضايقها اتصال ساعات الأرق. وإن سرقها النوم ـ وهى جالسة ـ فى أوقات مفاجئة ..
رأت رجلاً يعتلى صارى بلانس . هو البلانس الذى شاهدت غرقه ، أو يشبهه . كان الرجل يرتدى زى الصيادين : السروال الأبيض الضيق عند الكاحلين ، فوقه فانلة بكمين طويلين ، عليها صديرى كثير الأزرار ..
كان الرجل يلوح بيده ، ويعلو صوته كأنه يستغيث ، أو يبتهل فى حضرة ولى ، وقفز راكبو البلانس فى أمواج البحر العالية . ابتلعتهم ، ثم عاد البحر حصيرة كما كان .
علا نعيق غربان سود ، وتشابك ، فتسلل إلى داخل جدتى انقباض ، وتوقعت ما لا يؤذن بخير . كانت الغربان تحوم فوق البلانس . تتقارب حتى تتلامس أجنحتها فيما يشبه السحابة الصغيرة . تختفى وراء قلعة قايتباى ، وتنطلق فى الأفق إلى ما بعد سراى رأس التين ، ثم تعود إلى تحليقها الصاخب فوق البلانس ..
أصاخت جدتى سمعها ، تتبين ما يقوله الرجل ..
علت الأمواج فى المد ، ونعيق الغربان ، فغاب صوت الرجل . صرخ بالاستغاثة ، لكنها تركته للأمواج . انحسرت الأمواج فى الجزر ، وتباعد نعيق الغربان ، فتبينت جدتى قول الرجل :
ـ لماذا البحر يبتلعنا ؟
ظلت جدتى فى إنصاتها الملح . لم يتغير ما قاله الرجل عن العبارة نفسها ..
قالت أمى :
ـ هذا الحلم لأنك مشغولة بما حدث ..
قالت جدتى :
ـ ما رأيته كان فى موضع غرق البلانس ..
ـ البحر يبتلع الكثير من المراكب والبشر ..
وشوحت بيدها مهونة :
ـ وجودك على الشاطئ مجرد مصادفة ..
هزت جدتى رأسها :
ـ لو لم يخذلنى صوتى كنت أستطيع إنقاذهم ..
ربتت أمى على كتف جدتى :
ـ أتى أجل من كانوا فى البلانس فأخذهم ..
***
لم تصدق جدتى تفسير أبى لرؤيتها سيدى أبو الحسن الشاذلى فى المنام ..
قال إن رؤية الشاذلى فى ميدان الأئمة تعنى النجاة من النار ، أما مصافحتها للإمام فى حضرة أولياء الله من الأقطاب والمريدين ، فهى بشير بالأمان يوم الحساب ..
استعادت جدتى ما حدثت به الشاذلى من ظروف غرق البلانس ، وأنها لم تقدر على الصراخ لإغاثة الصيادين ، فحدث ما حدث ..
طمأنها القطب الأعظم بأن الله يرى حتى الجنين فى بطن أمه ، حتى خائنة الأعين وما تخفى الصدور ..
قال أبى :
ـ لست مسئولة عن غرق البلانس ولا عن موت أحد ..
أردف :
ـ أحياناً يركب البحر البلانس بدلاً من أن يركب البلانس البحر ..
أرجعت جدتى قول أبى إلى إشفاقه عليها ، قلقه مما تعانيه . قالت إن الأولياء يشفعون ، أما الخلود فى الجنة أو النار ، فالأمر لله وحده ..
***
لم تعد جدتى تبدى ضيقاً ولا مللاً فى اعتكافها داخل حجرتها . تعزل نفسها عن كل ما حولها . تخلو إلى تلاوة آيات من القرآن ، أو إلى أدعية وابتهالات . ربما وشى صوتها بالحزن وهى تقول كلمات منغمة كالتعديد .
اعتبرت أمى ما تبديه جدتى نوعاً من الفضفضة والتنفيس عما يشغلها من توقعات قاسية . ما أخافها أن جدتى كانت ـ فى بعض الأوقات ـ تطلب أن نغلق عليها باب الحجرة ، فلا ندخل لأى سبب .
كنا ننفذ ما تطلب ، دون أن نسألها ، وإن اقتصر تصورنا على أنها ربما تريد أن تركن إلى النوم . طال ـ ذات ضحى ـ إغلاق باب الحجرة ، فأدارت أمى أكرة الباب ، ودخلت ..
كانت جدتى جالسة على السرير . دلت ساقيها ، ووضعت ذقنها على راحة يدها ، كأنها تتأمل ، أو ترى ما لم تتبينه أمى ..
ـ أطلت إغلاق الباب ..
ـ كانوا يزوروننى ..
أضافت وهى تومئ برأسها :
ـ إنهم يزوروننى دائماً ..
ـ من هم ؟
ـ أولياء الله ..
أردفت :
ـ أحزنهم ما أعانيه منذ عجزت عن إنقاذ البلانس ..
ـ لم يكن بيدك فعل شىء ..
ـ هذا ما يقولونه . يزيدون عليه كلمات تريح القلب ..
***
لما طالعتنا جدتى رقية ، بوقفتها أعلى السلم ، مستندة على الدرابزين ، كنا نتناول طعام الإفطار فى الصالة التحتية ..
علا صوت أمى بالسؤال :
ـ لماذا تركت حجرتك ؟
أضاف أبى فى لهجة مشفقة :
ـ لا تستطيعين الوقوف على قدميك ..
قالت جدتى :
ـ كما ترى .. أقف ولا أشكو شيئاً ..
رقى أبى درجات السلم. أسند ذراع جدتى على كتفه. هبط بها إلى حيث نجلس حول الطبلية. أفسحنا ـ أبى وأمى وأخوتى ـ لجدتى بيننا مكاناً بيننا . بدت هادئة النفس ومطمئنة. عابت على أمى ـ وهى تصطنع غضباً فى ملامحها ـ أنها تمنع الفول المدمس عن طعامها، وهو ما ستحرم عليه بعد ذلك تماماً. لا أحد يعرف طعام الجنة ، وإن اختلف ـ بالتأكيد ـ عن طعام الدنيا ..
قالت وهى تضع اللقمة فى طبق الفول :
ـ أريد عربة تقلنى إلى الأنفوشى ..
أردف لنظرة الدهشة المتسائلة فى أعيننا :
ـ عرفت فى الحلم ما أراح ضميرى ..
وشى صوت أبى بإشفاق :
ـ حلم جديد ؟
ـ للأحلام تفسيراتها ..
قالت إن الملكين ناكر ونكير ، الكرام الكاتبين ، زاراها فى نومها . طالباها بالتهيؤ للقائهما فى القبر . رجتهما أن يطلعاها على صحيفة حياتها ، ما كتباه من أفعالها فى الخير والشر . كل شىء ـ بالأمر الإلهى ـ سجلاه . سألتهما عن البلانس ، ما إذا ابتلعته الأمواج ، أم اجتذبته عرائس البحر . أكدا أن ما حدث لم يكن لها فيه حيلة . هى امرأة مسكينة ، بلا حول ، حتى الصراخ حاولته ، وإن احتبس الصوت فى حلقها . بشرها الملكان بأن كفة الحسنات ـ فى حياتها ـ ترجح كفة السيئات ، والله غفور رحيم ..
قالت جدتى ما قالته دفعة واحدة . كأنها تستعيد ما حفظته جيداً ..
***
ماتت جدتى فى الضحى .

* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل

محمد جبريـل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى