عبد المجيد برزاني - أول الغيث.. قصة قصيرة

كان عليَّ أن أسابق النوءَ البادي في السماء الداكنة المكتنزة، أرفع عيني نحو الأفق وأسرع الخطى على الشارع الطويل المؤدي للـ"قشلة"1. في المنعرج عند مكتب البريد، ضاقت السماء بحملها وأرسلت زخات الماء كحبال سماوية تقرع رأسي وجسدي وتدفع بي تحت باب البناية. كانت" بنت حادة " أخذت مظلتي بعد زيارتها الصباحية، ولن تردها قبل الزيارة الموالية. لعنتُها في سري ووقفت أتأمل السيل الجاري يجرف ما ترسب في طريقه المعبدة منذ أيام الاستعمار. عجبت من مسارب وطرقات البلدة غير الموحلة طيلة فصل الشتاء، ربما لعلوها وطبيعتها الحجرية. انتهزتُ مرور أحدهم وانحنيت تحت مطريته حتى بلغت مقهى "محماد"، ثم انزويت أنتظر الصحاب على الطاولة المواجهة للفضاء الشاسع المطل على الحقول والدواوير البعيدة. قال لي "محماد مول القهوة" مبتسما وهو يمسح الطاولة بمنديل مبتل:
- الفلاحة ناشطين ..
فهمت أنه يقصد المطر، كيف يغسل النفوس وكل شيء، كيف يفرح المزارعون ويكشفون عن ضحكاتهم العفوية، وكيف يفرطون في التسامح والسخاء مع "البرّاني".... و"البرّاني" هو محماد وأخوه ابراهيم، هو أيضا أنا، وهو كل من ألقت به الأقدار، أو الوظيفة العمومية في هذه البلدة الهادئة المسالمة. المزارعون ودودون كحُملان، سعداء وينفقون بسخاء ظاهر .. ألقتْ الرياح القوية وزخات المطر بــ"حميد" و صديقه المهدي عَلَى طاولتي. قال حميد وهو ينفض البلل على ثيابه:
- الحمد لله أرسلتُ لهم ما يحتاجونه في "الخيمة" وتخلصتُ من قرفهم.
دخل "سليك" البائع المتجول، جالت عيناه بين الوجوه كأنه يبحث في المقهى عن أحد، وخرج مسرعا. دخل بعده "الحاج التريس"، زوج أخت حميد، مبتسما يحمل كومة من اللحم النيئ المعد للشواء. سلمه لابنه وأمره جهرا بشراء الفحم ثم الذهاب مباشرة إلى الدوار. وشوش المهدي لحميد:
- ستبيت رجلا أخـْتـِكَ معلقة ً في السقف هذه الليلة.
ابتسم حميد :
- كل زوجات المزارعين ستبتـْنَ معلقات الأرجل الليلة.
فضل آخر من أفضال المطر على العباد. في أول أيام الغيث يطيب الجماع للفلاحين!! نساؤهم أول حرثهم. فكرت في من لا زوجات لهم مثلي .... ليسَ لي إلا "بنت حادة" .. والملعونة لا تزورني ليلا. لا يطيبُ لها رفع رجليها إلا في الصباح، بعد أن يخرج ذووها كلٌّ إلى مأربِه. تتأوه تحتي كذئبة جريحة، تعصرني، تعض عنقي وتتفوه بكلام لا أفهم منه إلا اسم "عبيبيس". سأعرف بعد لأي وإلحاح أنه تصغير لــ"عباس" إسم طليقها، وأن كل علاقة جنسية هي انتقام لكرامتها من "عبيبيس".
كثافة الحبال المطرية تحجب الهضاب المترائية خلف زجاج النافذة، والكل يصغي في طرب لإيقاع وقعها على البلاط الخارجي للمقهى. دخل "سليك" مرة ثانية حاملا مصابيح يدوية وحزمة مطريات. صاح بصوت عال:
- وَارْويها يا كَريمْ....
التفتّ ُ إلى حميد أسأله عن "سي فليس" . طمأنني أنه اقتنى "الكويفة" وسيأتي. لعله يقصها الآن، هو يتقن استعمال السكين الحادة على اللوح الخشبي الصغير. "الكويفة" وكؤوس الشاي بـ"الشيبة" وأنفاس الأجساد البشرية المتزاحمة على لعبة الورق، تثير الدفء في فرائصي وتقصر ليلي الشتوي في هذه البلدة. جاء "سي فليس"، جر كرسيا وانزوى قرب النافذة، أخرج "السبسي" وصار يردف لي "الشقف" وراء الآخر. حدثني عن أمور السياسة وتدبير الشأن العام في البلدة، عن السوق الأسبوعي وزبانية اللصوص، وعن التغيير الذي حان وقته. تذكرتُ أن سي "فليس" بارع في سرقة "الكارطة" وكل يوم يؤدّي ضحاياه ثمنَ ما نشربه بعد طرح من "التوتي" مخضبا بألعابه البهلوانية. كان يتكلم، وكنت أتأمل رأسه الذي بدا لي، بعد "الشقف" العاشر، كبيرا بحجم رأس حمار، ثم صار يكبر أكثر فأكثر حتى أصبح بحجم تلفزة المقهى المعلقة فوق الباب. قلت له مذعورا:
– سي فليس، انتبه!!
– لا تخف، أعلم أن اللعبة خطيرة وأنني "براني" لكنني سألعبها للآخِر.
– رأسك سيقع من السقف!! سيتهشم رأسك!!
– إذا وصلتُ، لن يطال أحد حتى رجلي فبالأحرى رأسي.
انتفضتُ واقفا. خرجت من المقهى يطاردني رأس "سي فليس" الذي أصبح بحجم جرّار كبير ... بدا لي الطريق إلى "القنادلة"2 عبر الغابة أطول من صراط. ابتعت من "سليك" مطرية ومصباحا يدويا، على أن أدفع ثمنهما آخر الشهر، وتدحرجت عبر الشارع المتآكل. كنت أدير المفتاح في الباب وسط الظلام عندما جاءني مع هدير الرياح القوية صوت "بنت حادة" :
- عييتْ نتسناكْ قـْتـَلـْني غالبردْ ،، ذهب أبي إلى "بلقصيري" وأمي ستبيت ...
كانت ترتجف وتتحدث بسرعة، وكنت أتلو البسملة وراء البسملة في ذعر وأحدق في قدميها محاولا تبينَهُما في الظلمة بواسطة المصباح .
...........................................................................................................................
1 وسط البلدة حيث المقاهي ودكاكين البقالة والجزارة ...
2 اسم الدوار مكان سكنى السارد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى