ثقافة شعبية رشيد بيجيكن - "أهياض".. رقصة سوسية تنهل من التاريخ الحربي والطقوس الفلاحية

تتميز مناطق جهة سوس ماسة وبعض مناطق الجنوب والجنوب الشرقي المغربي بأنماط غنائية وألوان موسيقية متجذرة، استطاعت أن تحافظ على مكانتها المميزة، رغم حضور وانتشار أنماط معاصرة، ورغم التأثير القوي للتكنولوجيا الحديثة على مختلف الفنون. فأحواش ومختلف الأشكال الفرجوية الغنائية وأنواع الرقصات مازالت تحظى بأهمية كبرى لدى ساكنة هذه المناطق ولدى الباحثين.

ومن بين تلك الأنماط رقصة “أهياض”. يصفها عبد الصمد بصير، طالب في سلك الدكتوراه، بأنها “رقصة فرجوية بامتياز”. ويضيف في تصريح لهسبريس “غالبا ما يجتمع أبناء البلدة داخل الساحات المخصصة للفرجة (أسرير، أسايس، أسراك)، التي يمكن اعتبارها دار الأوبرا لدى الأمازيغيين، يعبرون داخلها عن عواطفهم ومكنوناتهم وثقافتهم وعاداتهم. قبل الرقصة تتم تهيئة الساحة وتوفير المأكل لأهل البلدة والزوار الوافدين الشغوفين بالمشاركة في الرقصة، وتوفير كل العناصر الضامنة لإحياء الفرجة دون منغصات، فتسود كل مظاهر الفرحة، وتفتح أبواب المنازل للجميع، ونلاحظ أن أقصى درجات المتعة والإمتاع تكون عندما يكون العنصر النسوي حاضرا بكثافة كمتفرجات، فهي محفز وفاعل في العملية الفرجوية”.

وبخصوص الموطن الأول لظهور رقصة “أهياض”، يوضح المتحدث ذاته أنها تنتشر في الحزام الغربي المطل على المحيط الأطلسي، من منطقة إحاحان إلى حدود آيت بعمران بسيدي إفني.

أما عن لفظة “أهياض”، فيرى الطالب الباحث أنها تعني “الشخص السائح الزاهد في الدنيا، أي الشخص الذي لا يهمه في الدنيا شيء، ويجري وراء إشباع حاجاته الذوقية والعاطفية”، مشيرا إلى أن “هناك فرقا أخرى تسمى “إهياضن” كإهياضن ن سيدي حماد أوموسى، وهي فرق تقوم برقصات بهلوانية من أجل التكسب”.

وبالاستناد على كتاب “أحواش.. الرقص والغناء الجماعي بسوس” لسيدي أحمد أبوزيد، يتابع بصير، فقد ازدهرت هذه الرقصة في عهد “قائد من إحاحان اسمه محمد بن بيهي الأولوزي السوسي، الذي ينتمي إلى العائلة المتوكية الحيحية، التي كانت بيدها مقاليد السلطة والحكم والنفوذ بالصويرة وإحاحان وسوس وحاضرة تارودانت في عهد السلطان محمد بن عبد الله، إذ ترك أولادا متعددين، عملوا على نشر رقصة أهياض. إذ كانوا يرافقون الفرق إلى كل مكان تحل به. بل حتى في الحروب تحضر فرق أهياض، ومن ثمة انتقلت إلى جميع مناطق سوس. وهناك من يعتقد أن هذه الرقصة كانت مغناة، قبل أن تتحول إلى رقصة ميمية، تعتمد الآلات الموسيقية المعروفة والأيدي وحركات الجسم”.

وبخصوص الآلات الموسيقية المستعملة في رقصة “أهياض”، يبرز أساسا الناي، الذي يسمى “العواد”، “وهو أداة جد مؤثرة وهامة في الرقصة، لكون عازفها لا بد أن يكون شغوفا بالرقصة وزاهدا، وفي غالب الأحيان يكون راعيا أو سبق أن مارس الرعي، وهو الذي يمنح الإلهام نظرا لظروف ممارسته الرعي الذي تغلب عليه الطبيعة ومناظرها وكل مكوناتها، فيفرغ أحاسيسه في الناي. فالعازف على الناي هو الوحيد الذي يحفظ لنفسه استعمال هذه الآلة لوحده، ليجد راحته أثناء العزف، واعتبارا أيضا لمقاسات نهايات الأصابع التي تختلف من شخص إلى آخر.

ويحرص العازف على زخرفة نايه بالنقوش، وإلباسه بعض الأدوات الفضية كالخاتم، أي أنه يحظى بعناية ومكانة خاصتين”، يقول بصير. قبل أن يضيف “أما “تالونت”، أي الدف، فيتكون من إطار مصنوع من خشب اللوز أو العرعار ومغلف بجلد الماعز أو الأرنب، وهو الأجود، وهو آلة قديمة قدم البشرية، والعازفون أو القارعون عليها (إنقارن) ينقسمون إلى صنفين، منهم من يستعمل راحة الأصابع، ومنهم من يستعمل السبابة والإبهام فقط (النقر)، وهو أقصى درجات التركيز في الإيقاع. وتستعمل الدفوف في الرقصة بشكل متناغم، لأنها تتوفر على مايسترو يضبط بدايات الرقصة وكل مجرياتها، ويسمى “أعلاّم” أو “أماريس”، ويكون من ذوي الخبرة، ويتحكم في جميع جزئيات وتفاصيل الرقصة”.

وهناك أيضا “آلة أخرى تكتسي هي الأخرى مكانة بالغة في رقصة “أهياض”، هي “الناقوس”، وهو إطار حديدي مشهور في الرقصات الأمازيغية السوسية، يعطي رنينا حادا، وهو حاضر حتى في عدد من الألوان الموسيقية العالمية، إذ أن الصوت الصادر عنه (صوت قرع الحديد) ضروري ومميز ومصاحب لصوت الآلة النفخية “العواد”. وبالتالي فهو آلة إيقاعية، لكن ذات صوت مغاير. ويشبه أهل الموسيقى “الناقوس” بالملح الذي يعطي المذاق للوجبة الغذائية، فهو يحافظ على ميزان الرقصة وإيقاعها”، يقول بصير.

وعن وظائف رقصة “أهياض”، يوضح الطالب الباحث قائلا: “يمكن أن نقول إنها رقصة حربية، بحكم أن العديد من الأشخاص من ذوي الكرامات كان يتم دفنهم بالقرب من الشواطئ، كسيدي وساي مثلا، من أجل دفع شر القراصنة البرتغاليين القادمين من البحر وصد هجماتهم. وبالتالي، جاءت الرقصة كتعبير لتشجيع الجنود، بتأطير من “القائد”، على تنظيم عمليات الهجوم وضبط تحركاتهم وقوتهم، إذ أن الرقصة تفرض القدرة البدنية وتعتمد القفز والدوران والجري والرفس، تماما كما هو مطلوب في الحروب. فالتفسير الحربي للرقصة جد منطقي، لكونها رقصة تتواجد بالبسيط السوسي وفي المناطق المطلة على المحيط الأطلسي ما بين قبيلة إحاحان وقبيلة آيت باعمران، مع بعض التأثيرات الثقافية التي تنزاح إلى ما وراء المحيط الأطلسي كقبائل أولوز وأولاد جرار، إذ هناك بعض الاختلافات بينها”.

أما التفسير الآخر “فيمكن تصنيفه ضمن خانة كونها رقصة فلاحية، على اعتبار أن المنطقة فلاحية بامتياز، زاخرة بمؤهلات فلاحية، مما يدفع القاطنين بها إلى الحرث ومباشرة مختلف أعمال الفلاحة، وضمنها الحصاد، إذ خلاله يعرب الأهالي عن فرحتهم لجمع المحاصيل ووفرتها. فأثناء الرقصة، تفسر الأصوات المرتفعة أو الصياح (أسغويو)، الذي يطلقه الراقصون، بكونه تعبير عن البرق. أما “الرش” فيعبر عن تساقط الأمطار، والرفس (أبرداكا) يفسر على أنه رعد. أما تمايلهم فيدل على نضج المنتوج، خاصة القمح والشعير، وتمايله بفعل الرياح يمنة ويسرة، ثم مباشرة عملية الحصاد بشكل جماعي وفق عملية “تويزي” على شكل صفوف في رشاقة تامة، وهو ما تعبر عنه الرقصة التي تؤدى في صف بشري. فالرقصة ككل عبارة عن علاقة متشابكة بين الطقس الفلاحي بجميع مكوناته”، يضيف بصير.

هي إذن رقصة معروفة بعدد من مناطق سوس، لا تزال تأديتها مستمرة، غير أن الإلمام بمختلف تفاصيل وجزئيات هذا النمط الفرجوي السوسي يتطلب حيزا أكبر، غير أن ما يؤكد عليه كثير من الممارسين والباحثين هو ضرورة الترافع القوي من أجل تصنيف هذا الموروث كتراث إنساني، مع إحداث مدارس لتعليمه للأجيال الصاعدة من أجل الحفاظ عليه من كل عوامل الاندثار، ولن يتأتى ذلك إلا بانخراط مؤسسات الدولة المعنية بالثقافة والجمعيات المهتمة والباحثين.









تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى