ثقافة شعبية محمد القاديري - فن "أحواش" عند الامازيغيين بالمغرب: بين التراث والفولكلور

تتميز المناطق الأمازيغية بأصناف من الإبداع الأدبى والفنى الموروث تاريخيا، وهى تعد تراكما إنسانيا مهما جسد على مدى تاريخ القبائل الأمازيغية صورة حية تعكس تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعى والبشرى. وعلى اعتبار الفن تجربة إنسانية خالصة، تسجل انطباعات الإنسان وتكشف رؤاه الداخلية وتأملاته الوجدانية وتصوراته لنفسه والكون، وفهمه للعلاقات والوشائج الرابطة بينهما فى تفاعل مستمر، فهو الذى يعبر بجلاء عن هموم أو آمال أو أحاسيس وتأملات مجردة فى الخيال ويحولها عبر أنساق إبداعية إلى صور فنية جمالية، يقرأ فيها الناظر صفحات تجربة إنسانية، فردية أو جماعية تتراكم مع الأجيال لتكون ذاكرة حية للجماعة.
فن «أحواش» عند الأمازيغيين بالمغرب واحدا من أهم عناصر الذاكرة الفنية عند قبائل سوس وواحات بانى درعة بالجنوب، إلى تخوم الصحراء الشرقية بتافيلالت وواحات زاكورة شرقا. وبتأمل هذه التجربة الفنية المنفردة، وبإجراء مقارنة بسيطة بين أمسها القريب وحاضرها سنكتشف الكثير من المظاهر والفوارق، التى يمكن استنطاقها.

بين الأمس واليوم
«أحواش» من أشهر فنون الرقص والغناء عند الأمازيغيين بالمغرب ويحظى باهتمام الكبار والصغار ذكورا وإناثا، وهو أقدم تعبير فنى بمنطقة سوس جنوب المغرب، ويكتسى أهمية خاصة لكونه رقصة جماعية تجسد تلك الروابط الإنسانية، ليس فقط بين الممارسين لها أو المبدعين فى أدائها، بل بينهم وبين الحاضرين وعموم المهتمين. فلا تكاد تمر مناسبة من مناسبات الأفراح عند سكان هذه المناطق دون تنظيم حفلات «رقصة أحواش» والتجند لها إظهارا للفرح، وكان ذاك موسما حقيقيا تشد إليه رحال المهتمين به لمسافات طويلة.. وهناك من الشعراء القدامى من يعتبر «أسايس» ــ وهى مكان أداء «أحواش» ــ مدرسة حقيقية. ولا عجب أن تجد شيخا طاعنا فى السن له مكانته فى المجتمع يقف جنبا إلى جنب مع شاب مبتدئ يرقصان معا، لأنه ببساطة ينقل قيما وموروثا ثقافيا إلى الخلف.
«أحواش» رقصة تؤدى بشكل جماعى فى ميدان له خصوصية يسمى عادة «أسايس». والكلمة جامعة لأنواع متعددة ومتباينة من الرقص والغناء منها رقصات ذكورية محضة وأخرى نسوية وأخرى مختلطة. وكان الناس قديما يؤدونها دون أية مناسبة، اللهم إلا الفرح والسمر والطرب. أما فى المناسبات الاجتماعية الكبرى كالأعراس والمواسم فهى من الأولويات. تؤدى الرقصة بعفوية وتلقائية، فكل شىء فيها فطرى.
وعلى الرغم من تنوع أشكال الأداء التعبيرى والإيقاعى فيها فالقاسم المشترك بينها أنها كلها مناسبات لنظم الشعر والتعبير الجسدى بالحركة المتناسقة وبالصوت الغنائى المطرب والإيقاع المضبوط الوزن، بالإضافة إلى كونها مجال تنافس لإظهار مواهب الشعراء خاصة الذين هم فى بداية مشوارهم الفنى.
ومنها ما يعرف بـ«أكوال» وهى كلمة أمازيغية مركبة توحى إلى كثرة القول المفيد «أوال» تصطف فيها النساء وهن فى أبهى حلل الزينة أو فى حلقة دائرية حول الرجال الذين يتكفلون بضبط الإيقاع الذى يؤدى بدوره بأدوات خاصة، منها ما هو مشترك مع غير الأمازيغيين ومنها ما يرتبط تاريخيا بهم. والأدوات الإيقاعية الأساسية فى «أكوال» هى «تالونت» (البندير) وهو إطار من خشب ملفوف بجلد حيوانى له إيقاع خاص، لكنه ليس كالبندير المعروف فى جبال الأطلس. فصوت «تالونت» البندير الأمازيغى يتسم بالرقة ولكل مقطع غنائى إيقاعه الخاص إذ بضربات البندير يتفاهم الماسكون بها بينهم، ولابد من ضابط للإيقاع أشبه برئيس الجوقة يسمى « أمرياس«( الرئيس)، وهو الذى يتكلف بحسه الفنى المرهف وتجربته فى الميدان بضبط الإيقاع والتنسيق بين الصوت والحركة والإيقاع، ثم «كانكا» (الطبل) المعروف بإيقاعه المسموع الذى يعلو على جميع الإيقاعات الأخرى.
تبدأ حفلة «أحواش» غالبا بموال افتتاحى بعد أن يأخذ كل واحد موقعه الخاص به، وغالبا ما يكون الافتتاح بالبسملة وطلب العون من الله والمدد وحسن التوفيق أو التوسل بالأولياء والصالحين. وتنقسم الوصلة الغنائية فى «أحواش» إلى دورين، الأول يسمى «أمجوكر» أى الرتيب والثقيل فى كلماته وحركاته التعبيرية، ثم يرتفع الإيقاع وتتسارع الحركة فى تناسق تام مع الغناء حتى يصل إلى مستوى معين يكون من اللازم الانتقال إلى الدور الثانى. وبضربة خاصة من ضابط الإيقاع يحول «أمرياس» الإيقاع إلى الدور الثانى الذى يختلف عن الدور الأول (أمجوكر الثقيل) بالسرعة فى الحركة والتتابع فى الإيقاع والاختزالية فى مقاطع الأغنية، ويسمى هذا الدور «أمسوس» ويعنى ذلك بالأمازيغية كمن ينفض الغبار عن ثيابه قياسا على حركاته السريعة، وفى نهاية هذا الدور يتوقف الغناء ليحل محله «العواد» (المزمار) حيث يختفى الكلام لصالح نغمات «العواد»، بل فى بعض أنواع «أحواش» لا غناء أصلا بل كل ما فيه «العواد» والإيقاع والحركة.
وهناك نوع آخر من «أحواش» نسوى بامتياز، وأنواع أخرى تتمايز بخصائص إيقاعية أو بحركاتها الأدائية مثل «أهناقار» أو رقصة «الدرست» المعروفة بمنطقة طاطا فى أقصى الجنوب المغربى، حيث تشكل هذه الرقصة فضاء للحوار الشعرى عبر سجال بين الشعراء، غالبا ما يكون حول مواضيع اجتماعية أو سياسية أو دينية، تتخللها وصلات من الرقص والغناء. لكن كثير من هذه الأنواع آخذة فى الذبول والاختفاء أو التحريف والابتذال.
تسمع أهازيج النساء على الرحى وهن يطحن الدقيق أو عند غزل الصوف والنسيج أو عند الحصاد أو ما يعرف عندهم بـ«تازرارت» أو «تامواشت» وهى مواويل غنائية. وتتعالى الأهازيج للتغنى بكل جميل ولكل جميل فى الحياة فى كل محفل أو مجمع أو ملتقى يجمع الأمازيغيين.. عند البناء أو الدرس أو الحرث ناهيك عن الزواج أو الفرح بمولود أو استقبال ضيف أو حاج عائد من مناسك الحج.

رياح التحريف والتبديل
يلحظ المتتبع للتحولات الاجتماعية الكبرى، بما فيها تلك التى عرفتها مناطق سوس جنوب المغرب، انعكاساتها على المستوى الإبداعى والفنى. ولم يسلم فن «أحواش» من بعض مظاهر هذا التحول العميق، بغض النظر عن التقييم الذى يحيط به والأحكام سلبية كانت أم إيجابية التى تطاله.
فأزمة الفن الأمازيغى فى المغرب عموما من أزمة الشعر وانحباس المواهب ومسخ الأذواق. فهذه الفنون العريقة لم تعد تحظى بالأهمية على مستوى التذوق والأداء، فتغيرت الكلمات وزاغت الحركات وتسربت أنماط من التعبير إلى دروب «أحواش» وهى غريبة عنه، بل أقحمت فيه عنوة أحيانا فأفسدته ولم تطوره. والملاحظة البارزة التى تتناسل منها باقى الملاحظات الجزئية هى أن الفنون الأمازيغية عامة و«أحواش» على وجه الخصوص كانت تتسم بالتلقائية والعفوية والفطرية، ولم تتلوث بالحمولات الأيديولوجية الضيقة ولم تدخل فى أتون الإثنية والعصبية، إلا أنه ظهرت نزعات منحبسة أمسكت بالمشعل، لكن بشكل مقلوب، فحولت فن «أحواش» من إطاره الرحب ــ برحابة حياة الأمازيغ الفطرية فى البادية والريف ــ وزجت به فى قوالب ضيقة فانكمش الإبداع وأفل نجم الفن بعدما كان وهاجا.

من فضاء أسايس الرحب إلى ساحة الفلكلور الضيق
حافظ الرواد الأجداد على سجل تاريخ الأمازيغ وديوان تراثهم الأصيل كوديعة، فأحاطوه بأسوار منيعة فى وجه التغريب والتحريف، لكن الفن الأمازيغى الراقى تحول إلى مادة دسمة لملء الفراغ فى السهرات والحفلات الرسمية، وتم اختزال هذا التراث الفنى فى شكل رقصات فلكلورية تؤدى على منصات الفنادق الفخمة كمنتوج سياحى مثل باقى المنتوجات الأخرى، وتحول هذا الفن بقيمه الإنسانية والجمالية إلى مجرد حركات لا يعرف لها المؤدى ولا المتلقى معنى، إلا لدفع الملل عن السياح الأجانب إن هم وفدوا إلى ديارهم. وأما التنافس فى تنظيم المهرجانات «الفنية» فيزج بهذا الفن فى براثن النفعية والاسترزاق بالتراث والفن، ومنظمو مثل هذه المهرجانات أشبه بمخرج مسرحية لا يعرف أصلا اللغة التى كتب بها السيناريو أو الحوار.
نسمع أخبار الفرق الغنائية الأمازيغية المحترفة ل«أحواش» قد تجاوزت حدود المغرب إلى المنتديات الدولية، فأعطت لهذا الفن شهرة عالمية. إلا أن هذا التسابق المحموم لتطوير الشكل والإطار الخارجى لم يواكبه تطوير المعانى بل حدث إغراق فى المظاهر والأشكال. على ذلك، هناك كثير من الجمعيات جادة فى الحفاظ على التراث الفنى وبعثه وتجديده، على الرغم من محدودية الإمكانات والوسائل. وإن كان كثير من الفنانين الاصيلين يئنون فى زوايا التهميش والحرمان فى البوادى والقرى ولا يلتفت إليهم أحد، فقد تسلقت بالمقابل زمرة من الوصوليين منابر الشهرة والظهور، محققين مكاسب شخصية ومادية...


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى