جعفر الديري - الدّوّامة.. قصة قصيرة

دق الجرس مؤذناً بانتهاء اليوم الدراسي، وتدافع الأطفال من على مقاعدهم زرافات إلى الخارج، حتى مدرّس الفصل سارع إلى الخروج دون أن يلتفت إليه وهو التلميذ الجالس على مقعده، وقد أمسك بملابسه في خوف.

كانت عيناه قد ادخرتا من الألم، ما زاد على حاجة طفل صغير، فهما تشبهان نجمين بعيدين في ليل دامس، وكساهما الأرق رداءً من الحيرة خليق برجل مبتلى بتأمين لقمة عيش لأبنائه العشرة، وليس بطفل لا يجاوز العاشرة!.

حرك رأسه يميناً وشمالاً، وعندما لم يشاهد أحداً في الفصل، أفرغ ما في مثانته من بول، فبلل ملابسه، وأخذ في البكاء، سيتأخر عن البيت كعادته كل يوم حتى يذهب والده إلى العمل، لكنه اليوم آثر أن يتأخر في الفصل الدراسي لحاجته للتبول، بعد أن رفض معلم الفصل أن يذهب إلى الحمام بحجة أنه كثير الذهاب إليه، لذلك سيظل هنا حتى الساعتين المقبلتين، ولن ينعم باللعب وسط النفايات.

كان يفكر في ذلك حين سمع وقع خطوات مقبلة، دق قلبه بعنف وانزوى في مقعده آملاً ألا يلحظه القادم، لكن الفرّاش وما أن تقدم حتى استرعى نظره الولد، وقد أخفى وجهه وجسمه يرتعش.

وجده يتقدم منه في هدوء وعيناه تلحظان الماء على ثيابه، ثم خاطبه قائلاً:

- لا تخشى شيئاً، تعال معي إلى الحمام ونظف ثيابك

استجاب إلى الفرّاش، ومشى معه إلى دورة المياه، وعيناه تسترقان النظر إليه.

كان يؤمل ألا يرى الفرّاش بعد خروجه من دورة المياه، لكنه وجده بانتظاره وإلى جانبه الأخصائي الاجتماعي، اضطرب كثيراً وبدأ بالبكاء، لكن الأخصائي المتمرس بعمله ابتسم في وجهه مطمئناً، وسأله عن اسمه وفي أي فصل هو، ثم أخلى سبيله، فانطلق يركض.

ما إن وجد نفسه خارج المدرسة حتى تنفس الصعداء، توجه إلى يسار المدرسة ثم انثنى في طريق ضيق حتى وصل إلى شاطئ البحر، ألقى بحقيبته المدرسية ثم غرس أصابعه في النفايات وأخذ بتقليبها.

لم يكن هناك من شيء يستحق البحث، لكن رغبته في العثور على شيء مميز كانت تشعره بالسعادة.

لم يمض وقت طويل حتى أقبل طفل آخر، يرتدي بيجامة، يمسك بيده تفاحة يقضمها بأناة، ابتسم في وجهه ثم أمسك بالتفاحة دون استئذان.. قال وهو يمضغ التفاحة:

- ألم تعثر على شيء بالأمس؟.

- وجدت دوامة

- أرني إياها

أخرج الطفل الدوامة وقد تكسر نصفها، لكن المسمار مازال قوياً، أمسك بها وراح يتأملها بسعادة، ثم اندفع والطفل في البحث وسط النفايات. وجدا أشياء كثيرة، مسطرة ومشطاً وأقلاماً ومجلات وطباشير وطوابع، غير أنها جميعاً قديمة متسخة، ثم استرعت انتباهه علبة ألوان نظيفة، فتحها وأخذ بالشخبطة بها على راحته وعيناه تشعان سروراً، وقرر أن يحملها معه، لكنه تذكر والده.

ثم رغبت نفسه وصديقه في مشاهدة ما في الصندوق من أشياء، أخرجاه من الحفرة الكبيرة، وأخذا بتأمل ما تجمع فيه، إذ كانا مشتاقين إلى ما يشعرهما بالأمان، وهذه الأشياء ملكهما لوحدهما لا يشاركهما فيها أحد.

ودع صديقه، ثم قطع الطريق الضيق ووجد نفسه عند الشارع العام، وأخذ بالركض، بعد أن اطمأن من أن أباه لن يكون في البيت، فوحدها أمه من تعنى بأمره وإخوته، وهي الآن بانتظاره لتقدم له وجبة الغداء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى