عبده جبير - رجل العواطف يمشي على الحافة.. قصة قصيرة

في الفصل الأول من المسرحية, كنت تحس بأن الوقت قد جاء لتسـتجمع شجـاعتك, وترفع سمّاعة التـليفون, وأنت جالس في الصالة على الفوتي, بجوار الراديو الخـشبي العتيق, لكنك ترددت وأعدت السماعة.
ذهبت إلى المطبخ وعملت كنكة كبيرة من القهوة, لعلها تذهب بصداع شراب الليلة الماضـية, وعدت تطل من الشرفة, لكنك لم تقف طويلاً, حتى لا يظل ظهرك فترة طويلة في مواجهة النظّارة.
وهكذا تكون قد أنهيت المشهد الأول من المسرحية.
في المشهد الثاني من المسرحية, عولت على أن دوشاً من الماء سيفك الضغط عن رقبتك ورأسك وعينيك, وسيكون بإمكانك العودة إلى سمّاعة التليفون وإجراء المكالمة, ستتمكن بالأحرى من العودة إلى حالتك الطبيعية كأي رجل في هذا العالم يريد امرأة بعينها, وعليه أن يخطو الخطوة الأولى: أن ترفع السمّاعة وتطلب الرقم, وتعترف.
لكنك أحسست بأن الماء بارد جداً, أكثر مما تطيق, وأنك مـهدد بالغـرق في البـانيو نصف الممتلئ, ومع ذلك, بدا لك أن المشـهد الثـاني لم يكتمل.
ومن أجل أن يكتمل, ذهبت إلى غرفة النوم وتمددت تحت الغطاء تنشد قليلاً من الدفء, إلا أن الغطاء هو الآخر كان بارداً أكثر مما تحتمل, ولم تحس بأن المشهد قد انتهى, وأن الفصل الثاني يوشك على البداية.
في المشهد التالي من الفصل الجديد, حيث يتغير المنظر, يكون عليك أن تسرع بالذهاب إلى المسرح, وأن تدخل إلى الغرفة الضيقة خلف الكواليس, وترتدي ملابس الشخصية, وتستسلم للماكيير وهو يرسم ملامح (هاملت) على وجهك, ومع الملابس تكون قد اكتملت الصورة.
لكنك بينك وبين نفسك, لا تحسّ بأنك مقتنع بقيامك بدور رجل إنجليزي مهما كانت عظمته, حتى ولو من باب التمثيل.
لكنك عمّا قليل سيكون عليك أن تؤدي الدور بإتقان ممثل محترف أمام جمهور ينتظرك, وليس أمامك سوى أن تنتزع التصفيق من أيديهم, والصراخ من حناجرهم إذا أمكن.
لكن المشهد الذي أديته وأنت مقتنع به بالفعل هو أنك أمسكت بيد الماكيير وهو يضع البودرة على جبهتك, ورفعتها عالياً, ثم قمت إلى الحمام, لا لتتبوّل, بل إلى حوض الغسيل, وأزلت البودرة, وشطفت وجهك بالصابون والماء الدافئ, وعدت إلى غرفة الملابس: خلعت ملابس الشخصية, وارتديت ملابسك, وخرجت من المسرح, إلى الشارع.
كنت تحسّ بأنك في الفصل الأخير من المسرحية, وأن هذه السرعة البادية على لحظة الختام, كانت قد اختمرت طويلاً في نفسك, وأن عليك أن تقوم بها الآن.
كنت تحسّ بأن عواطفك متأججة, وأنها لا تحتمل أي تأجيل, وما دمت تعرف الطريق إلى بيت (ميادة) فإن عليك أن تذهب على الفور, وتختصر الطريق, دون أن ترفع أي سماعة لأي تليفون, وتضعها أمام الواقع: تعترف لها بحبك وتنتظر.
بالطبع, كان هذا أقسى مشهد في المسرحية, لكنه لم يكن أكثر قسوة من تلك القسوة التي يحسّها أولئك النظارة الذين قدموا من أطراف القاهرة الأربع, وهم يرتدون البدلات الكاملة وفساتين السهرة, ليتفرّجوا على (هاملت) وهو يروح ويجيء على الخشبة.
أو ربما كان ما هو أشد قسوة من كل ذلك هو ما يشعر به الآن فريق المسرحية الذين ينتظرون بطلهم, وقد أخذهم الذهول حين عرفوا أنك خرجت من الباب الخلفي للمسرح, وذهبت إلى بيت حبيبتك.
وأنك بالتأكيد لن تشارك في العرض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى