محمد جبريل - مكـــاشفة..

تقف على شاطئ البحر . تنظر إلى البلانسات والقوارب ، وشباك الصيادين ، وطيور البحر تحوم فوق الأمواج الساكنة ..
خلا الشاطئ وقت الصباح الباكر ، إلا من قوارب متباعدة ، وصياد يجذب طراحته فى المسافة بين البحر والأرض الرملية ..
طال الأخذ والرد بينك وبين نفسك ، قبل أن تخترق الشوارع الضيقة . تعبر طريق الكورنيش . تقف أمام البحر ، تتعثر فى رماله . تلامس الأمواج الهادئة قدميك . تبدو الفرصة مواتية تماماً ، لكى تقذف فى البحر بما تعانيه . قال أبوك : البحر واسع ، يبتلع حتى الجيف . قالت أمك : البحر طاهر ، يغسل ما يلقى فيه من أوساخ . قال الشيخ عبد الله الصمدى إمام جامع البوصيرى : إذا أردت أن تتخلص من متاعبك ، الق بها فى البحر . وهز إصبعه منبهاً : لكى يتحقق ما تريد ، يجب أن يكون البحر حصيرة ..
تختلط ـ فى ذاكرتك ، وتهيؤك للفعل ـ رؤى ، وتصورات ، وملامح واضحة وشاحبة . تبدأ فى الحكى ، البوح بما فى النفس من الأسئلة والملاحظات القاسية .
قلت :
ـ أنت تتكلمين بما يفوق قدرتى على الإنصات ..
قالت :
ـ ربما لأنى لست من تريد الكلام معها .
يلح الشعر الأسود المنسدل على الكتفين ، والبشرة البيضاء المشربة بالحمرة ، والعينان الخضراوان الواسعتان ، والأنف الصغير . تملأ البسمة الهادئة صفحة الموج الساكن . يذوى ـ بلا توقع ـ توالى الصور .
تنفض رأسك ، وتغمض عينيك . تتنهد فى حيرة ..
تلح صورة مكتبك فى العمل ، فتستعيدها . أوراق وملفات وأرقام وبيانات وأسئلة وأجوبة ومناقشات . تتهيأ لاختيار ما تعد لإلقائه فى البحر . تتحدث به ، فيغيب فى ذاكرة الأمواج ، وتنساه . عينا نجاتى زميلك فى المكتب ، ترنوان إليك بنظرة ود :
ـ إذا ضايقتك الحياة ، فما ذنبى ؟
حاولت أن تظل وحيداً ، لا تختلط إلا لظروف العمل ، أو قضاء ما تحتاجه . تحرص فلا يدخل حياتك إنسان ما ، الضرورة تأتى به ، ثم يبتعد ، أو تبتعد . لا تميل إلى الأخذ والرد ، وما تجد فيه ثرثرة لا معنى لها .
تستعيد ـ ثانية ـ نزولك من البيت . اختراقك شوارع السيالة فى اتجاه البحر . اكتفاءك بإيماءة التحية . لا تلتفت إلى الجالسين على أبواب البيوت والدكاكين ، ولا داخل المقاهى . أمضيت الليل بطوله فى تذكر ما جرى ، وتوقع الآتى . توالى ضوء الفنار ، والأذان ، وصيد الجرافة والطراحة والسنارة ، والحرب ، والمظاهرات ، والصلاة ، وحلقة الذكر ، وأهازيج السحر ، والموالد ، ومواكب الصوفية . كتبت كل واقعة فى ورقة ، ما تعانيه ، وتشكو منه . تطلب الغوث والنصفة والمدد .
تفتش فى جيوبك ، تبحث عن الأوراق . تفاجئك بتمزقها ، أو عدم وضوحها ، أو أنها تعبر عن معان لم تكن كتبتها .
تذكر ما كتبته جيداً . تأملت ما حدث ، راجعته ، رصدت الأفعال الشريرة ، ليسهل عليك قراءة ما تشكو منه . تتركه للبحر ، تطويه أمواجه ، تغيّبه ، وإن كان توقعك أنه لن يغيب . يقضى فيه البحر بالصواب . يصارحك ـ فى الصحو أو المنام ـ بما يجب أن تفعله . للبحر عالمه وأسراره ، ومخلوقاته التى تحفظ الأسرار ، تبقيه على حال الطهر والصفاء .
تلجأ إلى الذاكرة . أحاديث ركوب البحر وعمليات الصيد والنوات وغرقى الرياح والعواصف . حوادث بعيدة وقريبة ، اختطفت فيها مخلوقات البحر من كانوا فوق الأمواج .
تشير إلى الجزيرة الصخرية فى أفق الأنفوشى :
ـ تحطمت قوارب كثيرة فى أثناء النوات ..
تفاجئك الكلمات :
ـ الحياة فى البحر تستحق المخاطرة !
يلح السؤال : مادمت تحيا ، لماذا يشغلك الموت ؟
الصيادون يركبون البلانسات ، يتجهون إلى أعالى البحار ، الأسماك الصغيرة تتقافز فوق المياه ، ورش المراكب تظل فى عملها من نجمة الصباح إلى شحوب النهار ، العجائز ينشغلون برفو ثقوب الغزل ، وتعليقه ـ حتى يجف ـ على المناشر ، أو فوق ظهور القوارب ، صفافير البواخر يترامى من الميناء الغربية ، الطيور تحلق فى السماء ، وتمضى إلى نهاية الأفق ، الأولاد يطلقون الطائرات الورقية ، يتابعون تحليقها ، ويحاولون اجتذاب الطائرات الورقية الأخرى ..
هذه هى الصورة فى تجسيدات الذاكرة . لا شأن لها بالموت ، ولا بخواطر من أى نوع .
تستعيد ما حدث بلا أوراق تعينك على التذكر . تختلط المرئيات والأحداث والوجوه والملامح ، تغيب الصورة الواضحة . تتصاعد فى الذهن ، كأطياف ، أو أشباح ، أو تكوينات هلامية .
تلتفت ـ بعفوية ـ إلى الوراء . بنايات السيالة كساها النشع والأعشاب والطحالب الخضراء . الشبابيك محطمة . الأبواب الخشبية ، القديمة ، تعلو درجات حجرية متآكلة . مياه الغسيل ، وبقايا الطبيخ ، وأحشاء السمك ، والمحارات الميتة .
لا تجد فى نفسك ميلاً لشىء ما ، ولا رفضاً لما غابت ملامحه .
تطوح بالأوراق ، تختلط بالرمال والحصى . تطايرت أوراق تحت هياكل البلانسات ، وقطع الحجارة ..
تخلف البحر وراءك ..
تمضى إلى داخل السيالة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى