أ. د. عادل الأسطة - صلاح حزيّن: إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحديث

مفتتح:

.. وأنا جالس في دكان أبي حسين، وأبو حسين مكوجي وموظف في السلطة، أتذكّر صورة فلسطين في النثر العبري، لا لأن أبا حسين مولع بالأدب العبري ولعَهُ بالسياسة، وإنما لأن أحد أصدقائه يحمل اسماً يجعله أحياناً يشعر بعدم الرضا. الرجل يشبه البدو، فهو من أصول بدوية أصلاً. وحين تقول له وأنت تتجاذب معه أطراف الحديث: إنك تشبه البدو يروي لك ما يقوله له آخرون حين يلفظ اسم عائلته، فهم يسألونه إن كان من أصول يهودية. يحكي لي الرجل إنه بحث مطوّلاً عن اسم عائلته ودلالاته، ويطلب مني أن أدلّه على مرجع يعرف منه جذور اسم العائلة التي كان أثرى أثرياء مصر أيام الملك فاروق يحمله، أيضاً.
في أثناء زيارتي رام الله وتجوُّلي في قاعات معرض الكتاب قبل شهرين لفت نظري كتاب صلاح حزيّن "إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحديث" (2012) وقد أعده للنشر وقدم له الكاتب وليد أبو بكر. والكتاب دراسات ومقالات كان صلاح نشر بعضاً منها في مجلة "مشارف" (حيفا). رتّب وليد المقالات والدراسات، وهذّبها وحذف منها ما رأى فيها تكراراً، وإن لم يلتفت إلى بعض أخطاء الكاتب فيما يمس التمييز بين المصدر والمرجع، وما يمس دقة التمييز بين الأجناس الأدبية.
في إجازة عيد الأضحى سأُنفق ساعات أقرأ الكتاب خلالها، ولاحظت أنني كنت قرأت بعض المقالات والدراسات في مجلة "مشارف" من قبل، ولاحظت، أيضاً، أن بعض الموضوعات خيض فيها من قبل من دارسين آخرين مثل (ريزا دومب) ووليد أبو بكر نفسه، فللأخير كتاب عنوانه "صورة العربي في الأدب الإسرائيلي" (1996)، وسأقرأ في كتاب صلاح أفكاراً كانت (دومب) أتت عليها في كتابها "العربي في الأدب العبري"، وهو كتاب نقله إلى العربية المترجم جلال عطاري، ومن الأفكار التي قرأتها ما ورد عن نظرة الكتّاب اليهود الأوائل إلى بدو فلسطين، فقد رأى الكتاب أن البدو هم اليهود الأصليون الذين ظلّوا مقيمين في هذه البلاد (فلسطين)، وقد تحوّلوا، مع مرور الأيام، عن دينهم الأصلي وغدوا مسلمين.
حين ذكر لي صديق أبي حسين الإشكالات والإخراجات التي يسببها له اسم العائلة الذي يشبه اسم عائلات يهودية مصرية ثرية، قلت له: وأنا أقرأ كتابات تعالج الأدب العبري أقرأ فيها عن نظرة اليهود إلى البدو.
فلسطين في النثر العبري:
من قبل كنت أنجزت مقالاً عنوانه "نثرنا.. ونثرهم"، أتيت فيه على صورة فلسطين في النثر العبري والعربي. وأنا أحاضر عن واقع القصة القصيرة، في قاعة غسان كنفاني، في صالات معرض الكتاب "أرض المعارض" في 16/10/2012، أتيت على صورة فلسطين في نصوص ما قبل 1948، وذكرت أنها برزت أكثر في النثر العبري، ما لفت نظر رئيس تحرير جريدة "الحياة الجديدة" الذي أبرز الفكرة فيما كتبه عن الندوة.
كانت وجهة نظري ـ وما زالت ـ أن الأدباء اليهود جاؤوا من أوروبا الشرقية والغربية، وكانوا قرؤوا الفن القصصي هناك ومارسوا كتابته، فيما كانت الرواية والقصة القصيرة في بلادنا حديثة عهد. حقاً كم مجموعة قصصية وكم رواية صدرت لكتابنا قبل 1948؟ إنها تعد على أصابع اليدين؛ ثلاث مجموعات قصصية وسبع روايات تقريباً، وأول رواية فلسطينية، وهي "الوارث" لخليل بيدس كانت أحداثها تجري في القاهرة، لا في فلسطين، وأبرز رواية، وهي رواية اسحق موسى الحسيني "مذكرات دجاجة" (1943) كانت رمزية، ولم يرد فيها اسم فلسطين، وإنما رمز له بـ "المأوى". وأما قصص بيدس "مسارح الأذهان" (1924) فكانت بيئتها وأحداثها بعيدة عن البيئة الفلسطينية، بل إن أسماء شخوصها غالباً ما كانت غير عربية. وهكذا لم يبرز نثرنا صورة تفصيلية لمعالم فلسطين.
وأنا أقرأ كتاب صلاح أتوقف أمام ما كتبه عن بعض الروايات العبرية التي رصدت حياة أهل فلسطين في بدايات ق20 رصداً دقيقاً وجميلاً. يبدو هذا في رواية "انتقام الآباء" لاسحق شامي المولود في الخليل، وهو من أصول سورية. تتحدث الرواية عن مدن فلسطينية مزدهرة ليس بثراء أهلها فقط، ولا بسحر الحياة ذات المسحة الرومانسية والصوفية التي تميزها، بل كذلك ببضاعتها وتجارتها واتصالها مع محيطها العربي، عبر رابطة التبادل التجاري والصناعي والروحي. [سيكتب أكرم هنية فيما بعد عن يافا قصة "دروب جميلة" (2007)].
ما أبرزه اسحق شامي عن حياة المدن لا يظهر في كتابات (موشيه شامير) و(يهودا بورلا) و(موشيه سميلانسكي) وآخرين، حيث كتب هؤلاء عن البدو وعن الفلاحين المتخلفين ـ [العبارة لصلاح]. وأتذكر رواية (هرتسل) "آلت نوي لاند" [أرض قديمة ـ جديدة] (1903)، فحين زار بطلها القدس أصيب بالإحباط، إذ رأى في المدينتين بؤساً وتخلُّفاً وفقراً. ثمة فقراء متسولون، وثمة شوارع خربة وغير نظيفة، وثمة مستنقعات تحتاج إلى تجفيف. ورشيد بك الشخصية العربية في رواية (هرتسل) ترحب باليهود القادمين ومشاريعهم التي ستجلب الضوء والعمار إلى هذه البلاد، فاليهود وحدهم القادرون على هذا. [ماذا لو نهض (هرتسل) و(رشيد بك) من قبرهما، ولاحظا ما جرى لأهل البلاد، وعددا الحروب منذ 1948].
القدس في بعض نثرهم:
في كتاب صلاح فصل عن القدس في الأدب الإسرائيلي. وأنا أقرأ الفصل أتذكر ما كتبه بعض أدبائنا في المنفى عن المدينة: حسن حميد "مدينة الله" والعراقي علي بدر "مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد"، وواسيني الاعرج "سوناتا لأشباح القدس"، وقد أنجزت عن هذه الروايات مقالات عديدة. لماذا تذكرت هذه الروايات تحديداً؟ لم تكن هناك بين الكتاب الثلاثة والمدينة علاقة مباشرة، وقد كتبوا عنها من بعيد، من دون أن يزوروها. وبعض الكتاب اليهود فعلوا الشيء نفسه، فقد كتبوا عنها دون أن يزوروها، وحين وصفوها اعتمدوا "أسلوباً أدبياً ترصعه مقتطفات من العهد القديم والعهد الجديد، ومن أساطير دينية وغير دينية حول القدس تحفل بها الكتابات اليهودية القديمة في صورة خاصة". ورأى صلاح "أن القدس ظلت بعيدة عن أعين اليهود المشتّتين في المنافي نحو ألفي عام، وما التوق إليها إلاّ نوع من الحنين المزعوم إلى أرض الوعد الإلهي، ومثل هذا الحنين غير القائم على معرفة حقيقية لا يمكن التعبير عنه بكلمات غامضة مبهمة يمكن للتعبير الأدبي فقط أن يستوعبها، فبمثل هذه اللغة يمكن لكاتب أن يكتب عن مكان لم يعش فيه، وعن مدينة لم يعرفها.."، وحين كتبت عن رواية حسن حميد "مدينة الله" كلاماً يشبه كلام صلاح الوارد آنفاً غضب حسن حميد.
طبعاً توقف صلاح أمام صورة القدس في كتابات (عاموس عوز) "ميخائيل الذي يخصّني" وغيرها، ورويات (أ. ب. يهوشع) "إزاء الغابات" فصورة القدس في كتابات هؤلاء صورة معقولة لصلة الكاتبين بالمدينة، لا صورة "أقرب إلى الاختراع منها إلى الواقع". ومن المؤكد أن كتابات بعض كتابنا عن القدس، ممن يقيمون في فلسطين، تبدو صورة مقنعة.

"إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحديث" كتاب تجدر قراءته، ورحم الله صلاح حزيّن، وحسناً فعل وليد أبو بكر إذ أصدر الكتاب.

2013-01-08
أ. د. عادل الأسطة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى