أ. د. عادل الأسطة - الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني

1- مدخل:

يرى غسان كنفاني في كتابه الأدب الفلسطيني المقاوم 48-1968 " أن أدب المقاومة العربي يحارب على جبهتين؛ جبهة التوعية وجبهة الرد / عامداً أو غير عامد، على الأدب الصهيوني، ويثبت جدارته على الجبهتين كلتيهما إثباتاً لا تردد فيه(1).

وتبدو محاربة الأدب الفلسطيني على جبهة التوعية واضحة وضوحاً تاماً، ليس فقط إبّان الفترة التي يحددها عنوان كتاب كنفاني المذكور أعلاه، فهي تمتد لتشمل الأدب الفلسطيني قبل هذا العام وبعده، المكتوب منه داخل الأرض وخارجها. ولنا في أشعار سليمان التاجي الفاروقي ووديع البستاني وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) دليل بيّن، ولنا أيضًا في أشعار شعراء المنفى مثل معين بسيسو وهارون هاشم رشيد وأحمد دحبور وخالد أبو خالد وآخرين ما يجعلنا نكرر مقولة كنفاني مطمئنين.

ويبقى الجزء الثاني من مقولة كنفاني بحاجة إلى تتبع وتوضيح، أي محاربة الأدب على جبهة الرد، عامداً أو غير عامد، على الأدب الصهيوني، وهذا هو ما ترمي إليه هذه الدراسة*.

إن مقولة كنفاني، فيما يخص هذا الجانب، يمكن أن توسع لتشمل أيضًا نصوصا أدبية مكتوبة قبل الأعوام المحددة وبعدها، في الأرض المحتلة وخارجها، نصوصاً كتبها أدباء مثل إبراهيم طوقان الذي عاش قبل 1948، ومعين بسيسو وغسان كنفاني وأفنان القاسم الذين عاشوا في المنفى. كما يمكن أيضًا أن توسع لتشمل نصوصاً أدبية كتبت لا لترد على الأدب الصهيوني وحسب، وإنما لترد على مقولات صهيونية لا تدرج تحت باب الأدب لأنها لا تنتمي إلى جنس أدبي معروف محدد، مقولاتٍ كانت كافيةً لإثارة الأديب الفلسطيني وحضه على الكتابة لدحض خطأ المقولات أو لبتينان ما يرمي من ورائها، مقولات غالباً ما كانت توجه إلى الجمهور العربي المقيم في مدنه وقراه، سواء في ذلك أكانت لغة الخطاب العبرية أم العربيّة!*.

ولا يجد قارئ الأدب الفلسطيني كبير عناء في تتبع هذه الظاهرة التي تفتح باباً في دراسة الأدب الفلسطيني لمّا يتطرق إليه الدارسون بعدُ إلا نادراً، أعني دراسة الأدب الفلسطيني مقترناً بغيره من الآداب(2)، ولا أقصد هنا تبيان موقعة من الأدبين العربي والعالمي، وإنما تتبع ظواهر معينة تبرز فيه بعد بروزها في غيره من الآداب أو العكس. وتوضح هذه الدراسة جانباً من ذلك يتمثل في تأثير الأدب الصهيوني النزعة على الأديب الفلسطيني، وقيام الأخير بالرد على ما ورد في الأول لدحضه من جهة، ولوضع تصور مغاير من جهة ثانية.

لقد كتبت العديد من النصوص الأدبية الفلسطينية بعد اطلاع أصحابها على نماذج من الأدب الصهيوني النزعة، المكتوب منه بالإنجليزية أو بالعبرية، أو المترجم منه من لغات أخرى كالألمانية إلى العربيّة أو الإنجليزية أو الفرنسية. وتشير المقدمات التي يصدر بها الأدباء نصوصهم إلى هذه الظاهرة، ظاهرة الكتابة على جبهة الرد، وتحمل بعض النصوص الأدبية التي تخلو من تصدير ما أو إشارة معينة، في داخلها، دحضاً ما لما قرأه الأديب الفلسطيني، أو تعطي تصوراً مغايراً له.

لتبيان ذلك سوف يتتبع في هذا المدخل قدر الإمكان، النصوص الأدبية التي كتبت بعد اطلاع أصحابها على نصوص أدبية صهيونية النزعة، ويتلو ذلك دراسة نصوص أدبية فلسطينية مقترنة بنصوص أدبية صهيونية لملاحظة هذه الظاهرة، ظاهرة الرد، بوضوح.

لقد نظم هارون رشيد قصيدة تحت عنوان " الضفتان لنا "(3) بعد أن أطلع على قصيدةٍ كتبها شاعر يهودي اسمه ( أراخ ). وقد مهد رشيد لقصيدته بما يلي:

" كتب الشاعر اليهودي، شاعر عصابة الأرغون، ( أراخ ) قصيدة حول نهر الأردن قال فيها: " ضفتا الأردن لنا، الغربيّة وقبلها الشرقية هما ملك إسرائيل، كل نهر له ضفتان، وليس هناك أي نهر بدون ذلك، والأردن المقدس لنا بضفتيه " ورداً عليه باسم كل ما في العروبة من ثأرٍ ووحدة ونضال أقول ... ".

وكان الدافع وراء كتابة ناصر الدين النشاشيبي لروايته " حبّات البرتقال "(1964) يكمن أساساً في رغبته في معارضة فيلم ( بن هور ) الممنتج أساساً عن رواية الكاتب Lewis Wallace التي حملت العنوان ذاته ( بن هور ). وقد أشار أنا القاص في الرواية إلى ذلك بوضوح، كما أنه أشار إلى رواية ( ليون أوريس ) واسعة الانتشار في الغرب ( أكسودس ) (4) .

ويذكر محمود شاهين في تصديره لروايته " الهجرة إلى الجحيم "(1984) أنه كتبها بعد أن اطلع على مخطوط رواية كتبها أحد المهاجرين اليهود الذين هربوا من فلسطين لعدم قدرته على العيش هناك، ولا يقلل من هذا ما أورده الكاتب، فيما بعد، من أنه لم يكتفِ بالاعتماد على ما ورد في المخطوط إذ ترك المجال لمخيلته ولقلمه، بحيث لم يبق للمخطوط تأثير يذكر(5).

وكان رشاد أبو شاور قد كتب روايته " أرض العسل "(1973) قبل كتابة شاهين لروايته، ومع أنه لم يكتبها، خلافاً للمذكورين آنفاً، رداً على نص أدبي صهيوني النزعة، إلا أنه يذكر في تصديره للرواية أنه اعتمد في كتابتها على عدد كبير من الوثائق(6)، دون أن يذكرها بالتحديد.

وتحفل نصوص كتّاب الأرض المحتلة عام 1948 بالعديد من الإشارات إلى نصوص أدبية عبرية لا تخلو من ردٍ على رؤى أصحاب النصوص للذات وللآخر، والشيء ذاته يلحظ في نصوص كتّاب المنفى الذين اهتموا بالأدب الصهيوني دراسةً أو ترجمة مثل كنفاني وبسيسو.

وتعطينا مطالعة الأعمال النثرية التي كتبها محمود درويش صورة لا بأس بها حول ذلك، وترشدنا في الوقت نفسه إلى النصوص التي قرأها وتأثّر بها. يستوي في ذلك كتابه النثري الأول " شيء عن الوطن (1971) و " يوميات الحزن العادي "(1973)، انتهاءً بكتاب الرسائل (1989) الذي ضم الرسائل المتبادلة بينه وبين سميح القاسم.

ويلفت الكتاب الأول نظرنا، في غير موضع، إلى اهتمام صاحبه المبكر بالأدب العبري، وتتبع صورة العربي فيه ما أمكن(7)، ويضع، في الوقت نفسه، أمامنا حقيقة قد تغيب عنّا، نحن الذين تعلمنا مناهج مدرسية وضعها عرب خاضعون لنظام حكم عربي، تتمثل في إجبار العرب الباقين في مدنهم وقراهم عام 1948 على قراءة نصوص أدبية لأدباء يهود مثل هرتسل وحاييم بياليك أكثر مما يقرأون لأدباء عرب مثل المتنبي وغيره(8).

ويسهل الكتاب الثاني علينا فهم بعض قصائد محمود درويش التي نظمت بعد مطالعته لنصوص من الأدب العبري، وهذا ما سيتابع في هذه الدراسة.

وتحتوي الرسائل المتبادلة بينه وبين سميح القاسم، في أجزاء منها، على رد صريح مباشر على كتابات أدباء عبريين. وهذا ما يبدو واضحاً في رسالة " أخطاء وخطايا " لسميح القاسم (1986)، ورسالة " هو ... أو هو " لمحمود درويش (1986). فقد أشار كلاهما إلى كتاب الكاتب الإسرائيلي ( يورام كانيوك ) " عربي جيد "(9)، ورداً بإيجاز على تصورات بعض شخوصه للذات وللآخر .

ويقيناً فإنّ من يجيد العبرية لن يكتفي بالوقوف على هذا الجانب، جانب الرد على الأدب الصهيوني النزعة، فقد تفتح أمامه آفاق أخرى في دراسة التأثر بينَ الأدبين شكلاً وموضوعاً. وقد لا يكون التأثر والتأثير متساوياً(10)، إلا أنه غير غائب. فمن المعروف، مثلاً أن راشد حسين نقل أشعار بياليك إلى العربيّة(11)، وأن أنطون شمّاس نقل رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "(1974) إلى العبرية، وأنه – أي شماس كتب رواية بالعبرية ( عربسك ) 1986) شكلت الشخصية اليهودية جزءاً أساسياً منها، ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى وقوف كاتبها على عبارة لأحد الأدباء العبريين الذين يرون أن الأدباء العرب لا يحلمون حين يكتبون عن اليهود بشخوصهم، كما يفعل بعض الكتّاب اليهود حين يكتبون عن العربي. وهو ما يرد في الرواية على لسان الشخصية اليهودية في رواية شمّاس، ( Yehoshua Bar On ) حيث يقول:

( And if I thought I had finished dealing with my Arabs today, both characters and fellow travelers, I,m likely mistaken I really and truly would like to know whether there is asingle Arab writer who dreams about his Jewish characters while he sleeps )

لقد كان درويش والقاسم من بين أولئك الأدباء الذين أقاموا حواراً مع أدباء يهود (12) ، ومن المؤكد أنّ مثل هذا الحوار كان يتبعه كتابة ما، تعزّز أو تنفي ما يرد على لسان الطرف الآخر في نظرته للذات وللآخر، وما من شك في أن هذا قد انعكس في النصوص الأدبية بطريقة أو بأخرى (13) .

وتقف هذه الدراسة، التي لا تدعي الإحاطة، عند بعض النصوص التي قامت بهذه المهمة، مهمة الرد على الأدب الصهيوني، قانعة بأن تفتح باباً جديداً في دراسة الأدب الفلسطيني، يمكن أن يتابع ويعمّق.

2- الكتابة على جبهة الرد.. نماذج أدبية

2/1 سليمان التاجي الفاروقي:

إن أول قصيدة كتبها عربي من سكان ما حدد في ما بعد جغرافيا بفلسطين كانت رداً على الأطروحات الصهيونية بخصوص فلسطين وسكانها. ولقد نشرت هذه القصيدة في جريدة فلسطين بتاريخ 26/11/1913. وقد نظمها الشيخ سليمان التاجي الفاروقي (1882-1958 ) عندما قرأ مقالاً في جريدة فلسطين تحت عنوان " صدى الصهيونية "، وقد أشار محرر الجريدة إلى هذا فكتب في أثناء نشره القصيدة التمهيد التالي:

" هذا ولما اطلع فضيلة الأستاذ الشيخ سليمان أفندي التاجي على ما ورد في العدد الماضي تحت عنوان " صدى الصهيونية " أرسل لنا هذه الأبيات البليغة فجعلناها ذيلاً لهذا الموضوع " (1) . وكان محرر الجريدة نفسها قد نشر في 23/11/1913 مقالاً عن مجلة "صدى الصهيونية" ، وقدم له بالتالي:

" هو اسم مجلة مقتصرة على المباحث الصهيونية، وقع أيضا العدد الأخير منها الصادر في تشرين الأول فوجدنا فيه عن المؤتمر الأخير الصهيوني أموراً جديرة بالذكر لم تطلعنا عليها حتى الآن الجرائد الغربية عن إسرائيل، فاقتطعنا منها قليلاً من كثير يتعلق ببلدتنا يافا وبالقدس، ننشره في هذا العدد وربما عدنا إلى نشر خلافه في عدد آخر ... (2) .

والجزء المنشور من المجلة هو بيان للدكتور روبين معتمد بلدتنا يافا ومدير " الوكالة الفلسطينية " التي أنشأتها الجمعية الصهيونية في فلسطين (3) " (والضمير في بلدتنا يعود إلى الحركة الصهيونية ).

ويتحدث بيان الدكتور روبين المنشور عن نقاط مهمة، نقاط تسبب بالفعل ما يبعث على القلق بالنسبة للسكان العرب، في فلسطين، في حينه.

إن البيان يحث على شراء الأراضي وبناء المستعمرات وتشجيع الأيدي العاملة اليهودية من أجل الاستغناء عن الأيدي العاملة العربية، ويذكر البيان أيضاً مقدار الأموال التي قدمت من أوروبا.

ومضمون البيان هذا، بما ورد فيه من نقاط مذكورة آنفاً، هو الذي حدا بالشيخ الفاروقي إلى نظم قصيدته التي حملت العنوان " الخطر الصهيوني ".

وعلى الرغم من العنوان اللافت للنظر، ذي الدلالة المهمة: " الخطر الصهيوني "، فإن الفاروقي في خطابه الشعري لم يميز بين يهودي صهيوني وآخر غير صهيوني. ولعل سبب ذلك يعود إلى أن المقال المنشور كان يحمل في ثناياه، بوضوح ما يدعو إلى التمييز بين اليهود وغير اليهود، وهو ما توضحه الفقرات التالية:

" إن المهاجرين الذين أسسوا المستعمرات تقدموا في العمر وفقدوا دم الصبيِ، فأصبح من الواجب ترغيب المهاجرة للشبان الممتلئين حماسة وغيرة وجلبهم إلى فلسطين ليشتغلوا بأيديهم دون أن يحتاجوا إلى أيد عاملة غير إسرائيلية (4) .

وأيضاً:

" فبهذه الأعمال وبالنشاط الإسرائيلي وبحصر قوانا في بعض مسائل معلومة سنصل بإذن الله للنفوذ الذي نسعى وراءه، ونحصل على النتيجة المبتغاة دون أن نغضب العرب الوطنيين الذين استفادوا من وراء مهاجرتنا، ولكن علينا أن نجتهد لنرفع عن العرب تأثير الطبقة المتنورة من المسيحيين وأخصام الصهيونية " (5) .

ولا شك أن هاتين الفقرتين، وغيرهما أيضاً، قد أثارت الفاروقي فكتب، من ثم، قصيدته التي جاء فيها:

بني الأصفر الرنان خلوا خداعكم = فلسنا من الأوطان بالمال نخدع
أقل شعوب الأرض، أهون أمة = تساومنا في أرضنا كيف نهجع
يهود، وما أمر اليهود بخائل = ولكنهم شعب له المال أجمع
أيرضيك يا ذا التاج أن بلادنا = على مشهد منا تباع وتنزع (6)

والنصوص المقتبسة من مقال " صدى الصهيونية " توضح لنا أيضاً جانباً آخر من جوانب الفكر الصهيوني، وهو التمييز بين مسلمي البلاد ومسيحييها، واعتبار الأولين عرباً خلافاً للأخيرين. وقد بدا هذا التمييز واضحاً، فيما بعد، في ما كتبه الشاعر رئوبين الذي هاجم سكان البلاد العرب في إحدى قصائده التي نقلتها جريدة فلسطين إلى العربية، ونشرتها بتاريخ 10/9/1929. فقد كتب رئوبين إلى عيسى العيسى، محرر جريدة فلسطين، بعد أن نشر القصيدة التي بسببها أوقفت سلطات الانتداب الجريدة العبرية ( دوار هايوم ) التي نشرت قصيدة رئوبين أولاً، وأنذرت من ثم جريدة فلسطين، كتب إليه ما يلي:

" الآن أزيد على ما تقدم بعض كلمات تختص بك يا خواجا عيسى. ما لك وللعالم العربي؟ إنك ابن الملة المسيحية المحلية، الملة الموجودة قبل مجيء العرب إلى فلسطين، الملة التي لم تختلط بالعرب، وبقيت غريبة عنهم ما عدا الذين اعتنقوا الإسلام وتعربوا، أما باقي النصارى فظلوا جانباً وليس لهم نصيب ما في العالم العربي. أنتم تتكلمون العربية؟ ولكن اليهود القاطنين في بلاد العرب يتكلمونها أيضاً، وعددهم أكبر من عددكم! لستم عرباً في عيون العرب، فلماذا تحشر نفسك في كل محل وكل حادث، وتقول " نحن العرب " وذلك لرفع اسمك وإبراز شخصيتك. " إنك لن تكون زعيماً للعرب لأنك من غير العرب " (7) :

وكانت محاولات الصهيونية هذه تدفع بكثير من الشعراء العرب؛ مسيحيين ومسلمين، إلى الرد عليها، مركزين على متانة العلاقة بين الطرفين، وعلى عروبتهم أولاً، وهذا ما انعكس بوضوح في أشعار وديع البستاني، وتحديداً في قوله:

أجل عيسوي، واسألوا الأمس والغداولكن عروبي يحب محمد (8)

2-2 إبراهيم طوقان:

تعتبر قصيدة إبراهيم طوقان المولود في نابلس (1905-1941) " في الرد على رئوبين " أعنف قصيدة في الأدب الفلسطيني قبل عام 1948، في هجاء اليهود والانتقاص منهم، ولا تكاد القصائد الأخرى التي نظمها طوقان وغيره، وذكروا فيها اليهود ، تذكر ازاءها. وعلى الرغم من أن تصوره للآخر يتشابه، في بعض جوانبه، مع تصوره له في القصائد الأخرى، إلا أن ثمة اختلافاً بيناً هناك. ففي القصائد الأخرى ثمة لهجة حادة عدائية، ولكنها ليست بالحدة نفسها التي نعثر عليها في قصيدته هذه، كما ونوعاً، كما أنّ بعض القصائد الأخرى تبرز لنا، أحياناً، صورة إيجابية للآخر.

ويبدو أن إبراهيم طوقان نفسه كان يدرك ذلك، ويرى في هذه القصيدة على أنها نتاج ظرف ما، أدت غرضها حين نظمها، على الأقل بالنسبة له شخصياً وللعرب الذين صوروا سلباً في قصيدة رئوبين ، وبالتالي كانت القصيدة أعادة اعتبار للذات القومية إزاء الانتقاص منها الذي أبداه رئوبين في قصيدته، وانطلاقاً من هذا فلم يؤثر طوقان ضم القصيدة إلى ديوانه الذي اختار، فيما بعد، قصائد من نظمه، لتشكله، ويتضح هذا من خلال مقدمة أحمد طوقان الذي اصدر الطبعة الأولى من ديوان إبراهيم، خالية من هذه القصيدة وقصائد أخرى، لقد أثبت أحمد طوقان في الديوان القصائد التي كان إبراهيم قد جمعها لتشكل ديوانه، وما نطالعه في الطبعة التي أشرف عليها أحمد طوقان هو " بعينه ما كان سيطلع به علينا المرحوم إبراهيم لو مد الله في أجله، وأشرف بنفسه على طبع ديوانه " (1) .

وضمت هذه القصيدة " في الرد على رئوبين " إلى أشعار إبراهيم، عام 1975 فقط في طبعة دار القدس الصادرة في بيروت، تلك الطبعة التي أشرف على إصدارها الدكتور إحسان عباس.

ودراسة هذه القصيدة، بمعزل عن قصيدة الشاعر رئوبين التي نقلت إلى العربية ونشرت في جريدة " فلسطين " بتاريخ 10/9/1929م، يسيء إلى الشاعر طوقان والعرب أيضا، ويدفع بقارئها إلى اتهام الشاعر باللايهودية، وقد عكف دارسون إسرائيليون، أو متحيزون لإسرائيل إلى فعل ذلك في أثناء دراسة صورة اليهود في الأدب العربي، من ذلك مثلاً شموئيل موريه (2) وكذلك س. أبراهام (3) و ( G. Haim Sylvia ) (4) .

ولم يفصح أي من هؤلاء عن السبب الحقيقي الذي حدا بالعرب، أساساً، إلى اتخاذ مثل هذه المواقف من اليهود.

وفي التصدير الذي أرفقه إبراهيم طوقان مع قصيدته أهمية كبرى. ففيه يبين لنا السبب الذي حدا به إلى نظم قصيدته، وهذا يساعدنا على معرفة سبب حدة اللهجة من ناحية، وعلى هذا التصور للذات وللأخر من ناحية ثانية. لقد صدر إبراهيم طوقان قصيدته بالعبارات التالية:

" نشرت الجريدة اليهودية ( دوار هايوم ) قصيدة لشاعر اليهود رئوبين، نقلتها إلى العربية جريدة فلسطين. وعنوان القصيدة " أنشودة النصر "، أتى فيها الشاعر على الحوادث الأخيرة في فلسطين مشيداً بذكر اليهود وشجاعتهم في الطعن والضرب زارياً على العرب ( أبناء هاجر وإسماعيل ) خوفهم ووحشيتهم وهزيمتهم! زاعماً تارة أنهم عزل مظلومون وأن العرب على تسليح الإنجليز لهم كانوا لصوصاً وقطاع طرق وأهل خيانة وغدر يعتدون على الأطفال والشيوخ والنساء، وقد نظمت هذه القصيدة رداً على " أنشودة النصر " غير معترض كثيراً إلى الحوادث بقدر اعتراضي إلى تاريخ اليهود وتوراتهم " (5) .

ومع أن هذا التصدير يوجز مضمون قصيدة رئوبين، كما ارتآه طوقان، إلا أنه لا يغني عن العودة إليها ودراستها جنباً إلى جنب مع قصيدة طوقان في أثناء دراسة القصيدة الأخيرة.

لقد رأى بعض الدارسين في هذه القصيدة والقصائد الأخرى التي ذكرت اليهود، اتكاء قائليها على التقاليد الإسلامية واستعارتهم منها " مأخذ ضد اليهود، وتربطها مع اتهامات لاسامية تنتسب إلى التقاليد الأوروبية المسيحية. فالمساواة بين اليهودي والصهيوني التي روجتها الحركة الصهيونية، بإلحاح شديد، أصبحت، بطريقة مرعبة، واضحة"(6).

كما رأى هؤلاء ، ومعهم الحق في ذلك ، أن "الخصومة مع الصهيونية تعود أيضًا إلى تقاليد قصائد المفاخرة ، والسؤال فيما إذا كان العرب أفضل من اليهود أقيم وأذيع أيضًا على أساس جدل ديني (7).

وما يجب ألا يغفل ، حقاً، في أثناء دراسة القصائد العربيّة في الحديث عن اليهود ، هو أنها في معظمها ، أن لم تكن كلها ، إنما كانت تظهر غالباً رداً على أفعال أو أقوال صهيونية تستفز العرب.

وهذا ما ذهب إليه صالح الطعمة في دراسته المنشورة بالانجليزية في مجلة "العربيّة" حيث قال:

"Second, the negative portrayal of the Jew which began to emerge repeatedly in the thirties and thereafter was basically the product of political passions expressed by Arab resistance to defiant and unchecked Zionist penterations and to hostile British Policy".

وكانت قصيدة رئويين تشكل استفزازاً للعرب. فماذا يقول النص المترجم لها؟ وهل يختلف مضمون النص المترجم عن مضمون التصدير المقتبس أعلاه ، التصدير الذي أوجز ما ارتآه الشاعر؟

لقد ركز طوقان في أثناء قراءته للقصيدة ، على تصور رئوبين للآخر – أي العرب هنا- وتصوره للذات –أي اليهود هنا- والقصيدة- كما نرى- تلفت نظر قارئها في جانبها هذا. فهي منذ بدايتها حتّى نهايتها تهجو الآخر ثُمَّ مقابل ذلك تمدح الذات. وصيغة الخطاب فيها تتجه أساساً إلى القارئ اليهودي ، لتحرضه على العرب ، وتدفعه ، من ثُمَّ إلى قتالهم. يفتتح رئوبين القصيدة بالأسطر التالية:

"أحاط بنا الأعداء وألبوا علينا المدينة والقرية ، وفتحت الصحراء فاها خرج الفلاحون من أوكارهم ، من دير ياسين مأوى الذئاب ، من المالحة التي تبني بأموال اليهود ، من قالونيا من شعفاط من بيت صفافة، ومن صور باهر مكمن اللصوص" (9).

ويحدد هذا النص المقتبس طرفين في حالة عداء: الأعداء، وهم سكان القرى المذكورة، وينعت هؤلاء بالذئاب واللصوص ...الخ، واليهود الذين يملكون المال ويبنون بها القرى العربيّة، ويقوم النص على هذه الثنائية: الهم والنحن. ونقتبس مقاطع من القصيدة لتوضيح صورة كلا الطرفين ، كما يقدمها رئوبين:

"وتقاطروا من أنحاء البلاد: أشرار يافا، نفاية البحر العكر وجاء وحوش الصحراء للبلد من جبال اليهودية ومن سهول أريحا، جاءوا للتنكيل والتدمير والسلب" (10).

ويتابع:

"بدو سود تتدلى شعورهم.
رجال حرب منذ الطفولة ، وخلفهم الفلاحون يموجون بمن فيهم من التماسيح المعتدين ، وأبناء الارستقراطية الخبثاء المداورين " (11).

وهكذا هم العرب: سكان مدن وسخون ، أو سكان صحراء يجيدون الخراب، أو فلاحون تماسيح ، والأغنياء من كل هؤلاء مداورون خبثاء.

وعلى الرغم من أنه يصفهم بأنهم رجال حرب منذ الطفولة ألا انه في النص نفسه يصور لنا كيف هرب هؤلاء من المعركة ، وأخذوا يدورون على القرى طالبين النجدة.

وفي المقابل نجد صورة أخرى للذات- أي اليهود - :

" حينئذ خرج رجال إسرائيل ، نزلت بقية الشعب العظيم. نزلوا وسلاحهم مسدد إلى وجوه الأعداء وأيديهم مستعدة للعمل ".

" يا أبناء صهيون الشجعان ، يا من كرستم أنفسكم للتضحية ، وأنتن يا بنات صهيون المخلصات ، وأنتم يا أبناء الشعب الذي لا يخضع " (12).

ولعل الفقرات المقتبسة لا تحتاج إلى إعادة توضيح. وهذه الثنائية التي بنيت عليها القصيدة هي التي حدت بإبراهيم طوقان إلى أن يركز عليها أيضاً في قصيدته ، ولكن بعكس التصور للذات وللآخر.

والفارق بينهما أن طوقان يخاطب رئويين نفسه ، ولا يكتفي بذلك ، بل يلجأ إلى التعميم فيهاجم اليهود كلهم ، وتتحول صيغة الخطاب ، أي المنادى هنا ، من منادى نكرة مقصودة إلى منادى نكرة غير مقصودة.

فالمقصود بقوله: " يا يهودي " هو رئوبين أساساً ، كما يوضح لنا عنوان النص: " في الرد على رئوبين " وكما يبين لنا أحد الأبيات : أي رئوبين غط وجهك حتى لا يرى الأنف أنه مهشوم (13).

ولكنه يتحول إلى خطاب لليهود كلهم ، فالنص يرى في اليهود حالة ثابتة ساكنة تمتد في المكان والزمان.

يقول طوقان:

هاجر أمنا ولود رؤوم = لا حسود ولا عجوز عقيم
هاجر أمنا ومنها أبو العرب = ومنها ذاك النبي الكريم
نسب لم يضع ولا مزقته = بابل أيها اللقيط اللئيم
ودم في عروقنا لم يرقه = سوط فرعون والعذاب الأليم
يعلم الدهر أي أهرام مصر = ذلكم في صخره مرقوم
هرم خالد يغشيه ظل = من عبودية لكم لا تريم (14)

ولا شك أن طوقان تتبع الأفكار التي ركز عليها رئوبين في قصيدته ، وتحديداً رؤيته للعرب ولليهود ، ورد عليها ، وقراءة القصيدتين معاً يوضح ذلك بغير شك. خذ على سبيل المثال وصف رئوبين للعرب بأنهم جبناء ، كما مر ، وقارنه بقول إبراهيم طوقان:

ناد أبطالك الذين تواروا = في الشبابيك أنهم لقروم
يرقبون الأطفال منا ، فان = لاحوا رموهم ، فهالك وكليم (15)

وتفترض حالة اختباء اليهود وراء الشبابيك ، ومناداة الشاعر لهم بأن يخرجوا ، حالة أخرى هي شجاعة العرب واستعدادهم للمواجهة.

وهذا مغاير لما ذهب إليه رئوبين.

2-3غسان كنفاني:

درس غسان كنفاني (1936 -1972) الأدب العربي في جامعة دمشق ، وقد سهل له إتقانه اللغة الانجليزية ، حيث درس في مدرسة أهلية في يافا تركز على الانجليزية ، الاطلاع على الأدب الانجليزي وما كتب بلغته ، وقد كان كنفاني أول من كتب دراسة باللغة العربية حول الأدب الصهيوني ، آملاً من وراء انجازها أن يلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب "اعرف عدوك" (1).

وقد مكنه اطلاعه على نماذج من الأدب الصهيوني المكتوب بالانجليزية إلى التوصل إلى أن الحركة الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي ، فقط " كان الأدب الصهيوني جزءاً لا يتجزأ ولا غنىً عنه استخدمته الصهيونية السياسية على أوسع نطاق ، ليس فقط لخدمة حملاتها الدعوية ، ولكن أيضاً لخدمة حملاتها السياسية والعسكرية" (2).

ورأى كنفاني أيضاً أن هذا الأدب حقق ما كان يرجى منه ، وأن دولة إسرائيل قد أدركت ، فيما بعد ، هذا ، فسارعت بعد أيام قليلة من إعلان ولادة الدولة عام 1948 إلى إطلاق اسم مؤلفة رواية (دانييل ديرواند) على أحد أهم شوارع تل أبيب (3).

ويبدو أن كنفاني نفسه قد اقتنع لدرجة كبيرة بأهمية الأدب ، ومن هنا فقد أراد أن يوظفه لخدمة السياسة ، فركز ، من ثم ، على تصوير حياة الفلسطينيين في المنفى ، مبيناً مدى بؤسها ، مقارنا ، بين الحين والآخر ، بما كانت عليه في بلادهم ، قاصداً من وراء ذلك حث الفلسطينيين على العودة إلى بلادهم باعتبار ذلك الخلاص الوحيد له في الخروج من حياة الذل والتشرد التي يعانون منها في المنفى *.

وأرى أن كنفاني ما كان ليصل إلى هذا التصور ، في تلك الفترة المبكرة من تاريخ المأساة الفلسطينية بعد الخروج الأول عام 1948 ، لو لم يقرأ الأدب الصهيوني الذي ركز ، بدوره ، على أن خلاص اليهود من عذابهم إنما يتم من خلال عودتهم إلى فلسطين وإقامة دولتهم فيها. ولنا في رواية (ليون اوريس) المشهورة (اكسودس) (الخروج) مثل في ذلك. ومن يستعرض الرواية منذ بدايتها حتى نهايتها ، سيجد أن اليهود لم يشعروا بالراحة والاطمئنان – هكذا تقول الرواية – ولم يحلوا مشكلة المنفى التي اتخذت طابعاً مأساوياً ، إلا في فلسطين ، وهناك – أي في فلسطين – تخلصوا من ملاحقة الآخرين لهم: تحديداً المذابح التي ارتكبت بحقهم في روسيا في القرن التاسع عشر ، وتلك التي ارتكبها النازيون في ألمانيا إبان الصعود النازي .

وتبرز في العديد من أعمال كنفاني ثنائية الماضي / الحاضر. الماضي الأقل بؤساً من الحاضر البائس. صحيح أن الماضي لم يكن دائماً مشرقاً ، إلا أنه إذا ما قورن بالحاضر البائس أبداً فسيبدو مقبولاً.

ومن هنا فان الماضي لا يمكن أن ينفصل بأي حال من الأحوال عن فلسطين ، ومن ثم الذل . ويظل لفلسطين حضورها الأكبر والمميز في ذهن الشخوص الذين يعيشون في المنفى لتصبح لكثيرين منهم المكان الذي يمكن أن يجدوا فيه الطمأنينة. هكذا نجد أبا قيس، أحد شخوص رواية "رجال في الشمس" (1963) يتذكر ، وهو في المنفى ، الأستاذ سليم الذي استشهد عام 1948 ودفن على تراب وطنه :

" لا شك أنك ذو حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود ... ليلة واحدة فقط ... يا ألله! ِأتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟ صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك ... ولكنك على أي حال بقيت هناك... بقيت هناك! وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار" (4).

وتعتبر رواية : "عائد إلى حيفا" (1963) أبرز نموذج في أعمال كنفاني كتبت بالفعل على جبهة الرد على الأدب الصهيوني . فثمة عبارات في هذه الرواية ، تترك المرء وهو يقرأها يستحضر العديد من الروايات ذات التوجه الصهيوني التي قرأها كنفاني ودرسها في كتابه المذكور . وهذه الرواية تقوم ، في عمومها ، على تمجيد الذات اليهودية واحتقار غير اليهود ، ومن ضمنهم العرب.

ورواية (ليون اوريس) (اكسودس) التي بيع منها في الغرب أكثر من خمسين مليون نسخة ، كما كتب على غلاف الطبعة الألمانية الرابعة الصادرة في ميونخ عام 1990 ، يمكن أن تدرس جنباً إلى جنب مع رواية كنفاني " عائد إلى حيفا " ، بل أن أفضل دراسة لهذه الرواية هي دراستها مع رواية (اوريس).

والعبارات التي ينطق بها سعيد . س ، الشخصية الرئيسية في رواية "عائد الى حيفا" ليست سوى ردود على المقولات الصهيونية، التي تنتشر في رواية (اكسودس) ، سواء في ذلك الأقوال التي يسردها السارد أو تلك التي ينطق بها بعض شخوصه الصهيونيين والعرب المؤيدين للصهيونية –هكذا يتخيلهم (اوريس) – خذ مثلا رد سعيد ، س على زوجته صفية التي تقول له وهي في حيفا انها لم تكن تتوقع أن ترى المدينة ثانية:

" أنت لا ترينها ، انهم يرونها لك " (5)

أن هذه العبارة تستحضر في اذهاننا التصورات الصهيونية لصيرورة فلسطين بعد عشرين عاما من سيطرة الحركة الصهيونية عليها ، وتتمثل هذه التصورات في أن اليهود سيحولون فلسطين من أرض خربة صحراوية إلى جنة ، وقد انعكست هذه التصورات ، أولاً، في رواية (ثيودور هرزل) المعروفة "ارض قديمة جديدة" (1902) ثُمَّ فيما بعد في رواية (ارثر كوستلر) "لصوص في الليل" (1946) ، وأيضاً في رواية (اوريس) المذكورة.

وكنفاني نفسه ، من خلال سعيد ، س ، يرى أن مزاعم الصهيونية هذه ليست صحيحة. لقد نفخ في الادعاءات هذه وبولغ فيها ، وهو يرى أن الفلسطينيين لو ظلوا في ديارهم لجعلوا بلادهم أفضل بكثير مما هي عليه . هكذا يوضح سعيد ، س الأمر لزوجته صفية:

"في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم إلى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث. كلهم يقولون كلاماً متشابهاً ، ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم . جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة ، إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهماً" (6)

والعبارة الأخيرة "أن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود ، لم تكن الا وهماً" في قسمها الأول ، وتحديداً مفردة معجزة ، تكررت غير مرة في تلك الروايات. يعترف كمال ، إحدى الشخصيات العربيّة في رواية (اكسو دس) بأنه رأى وشاهد كيف عاد اليهود ثانية واحضروا معهم معجزة حقيقية (7). وهو ما يذهب إليه السارد – ومن ورائه (اوريس) نفسه – في الرواية نفسها:

"أن شروط الحياة كانت صعبة فوق العادة . وراتب الجنود المزارعين الصغار كان ثلاثين دولارا في السنة. امامهم وقع الموت ، وخلفهم الأرض غير الخصبة التي وجب أولا أن تستصلح ، وطبعاً –وهذه معجزة ثانية للأمة الناشئة- إن شباب إسرائيل سجل بحرية لكي ينفق حياته في مستوطنات كهذه على الحدود" (8).

وما قول سعيد.س، مخاطباً زوجته صفية ، موضحاً لماذا فتح الاسرائيليون الحدود بعد حرب 1967 أمام سكان المناطق المحتلة لزيارة مدنهم وقراهم ، سوى رد على ذلك:

"انهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف اننا احسن منكم واكثر رقياً. عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدماً لنا ، معجبين بنا ... ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء ... كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير" (9).

إن هذه العبارات ترد ، تحديداً ، على الأقوال التي أوردها مؤلف (اكسودس) على لسان ، كمال العربي ، حيث رأى هذا في اليهود شعباً أحضر النور إلى هذه البقعة المظلمة من الأرض:

"لست شخصياً متأكداً لمرة فيما إذا سيسلب اليهود ، في نهاية الأمر ، هذه الأرض كلها. ومع ذلك –فان اليهود هم المنقذ الوحيد للشعب العربي. إنهم منذ آلاف السنين الوحيدون، الذين احضروا لهذه الزاوية المعتمة من العالم الضوء" (10).

ويتذكر المرء وهو يقرأ "عائد إلى حيفا" (اكسودس) بالتحديد ، ويربط بينَ شخصية (دوف) في كلتا الروايتين ، أن تأثر كنفاني هنا لم يقتصر على نقل الاسم. لقد لخص كنفاني، من خلال العبارات التي أنطق بها (دوف) ، الفكر الصهيوني ، كما صورته رواية (اكسودس) ثُمَّ أخذ يدحض هذا الفكر ، راداً عليه ، موضحاً تناقضه ، وذلك من خلال الحوار الذي أجراه بينَ سعيد.س و (دوف). وحين يقرأ المرء ما يقوله (دوف) لسعيد.س، وتحديداً النص التالي:

"كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكناً فقد كان عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلاً رضيعاً في السرير. وإذا كان هذا أيضًا مستحيلاً فقد كان عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة ... أتقولون إن ذلك كان مستحيلاً؟ لقد مضت عشرون سنة يا سيدي! عشرون سنة! ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك! لو كنت مكانك لحملت السلاح من أجل هذا. أيوجد سبب أكثر قوة؟ عاجزون! عاجزون! مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل ... لا تقل لي أنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون (11).

يستحضر ، بالفعل ، ما كان قام به دوف نفسه ، وهو طفل ، حين كان في وارسو محاصراً من النازيين . لقد قاوم (دوف) هناك –هكذا تصور رواية (اوريس)- مقاومة أسطورية جعلت منه ، تقريباً ، شمشون العهد القديم . وحين رفضت السلطات البريطانية السماح لسفينة (اكسودس) بالرسو على الساحل الفلسطيني ، وإعادتها ثانية إلى حيث جاءت ، أصر ركاب السفينة على العودة ، وحاولوا حتّى عادوا ، والعبارات الأخيرة من قول (دوف) "عاجزون عاجزون ، مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل.." وردت غير مرة ، في وصف العرب ، في رواية (اكسودس) . هكذا وصف اللاجئون الفلسطينيون في هذه الرواية:

"هؤلاء اللاجئون جلسوا عاجزين ، وعاشوا على ما تنفقه عليهم المنظمات الدولية"(12).

وهناك مجال أوسع ، على أية حال ، للمقارنة بينَ الروايتين ، ولتوضيح ما ذهبنا إليه من أن كنفاني نفسه ، كان في أدبه أيضًا ينطلق من منطلقين هما : الرد والتوعية.

2-4 محمود درويش:

لقد أنفق محمود درويش (1941-2008) فترة من حياته داخل الأرض المحتلة عام 1948، وقد مكنته إقامته هناك ، حيث أجاد العبرية ، من الاطلاع على الأدب العبري ولم يكتف ، تبعاً لذلك ، بدور القارئ المحايد ، فقد أخذ يشارك ، أولاً ، في اللقاءات التي تتم بينَ كتاب عرب وآخرين يهود ، ثُمَّ أخذ يكتب مقالات يرد فيها على مضامين أدبية إسرائيلية (1)، لإدراكه أهمية الالتفات إلى هذه الناحية (2).

لقد كان محمود درويش نشيطاً وفعالاً في حركة الأرض أولاً، ثُمَّ في الحزب الشيوعي الإسرائيلي من بعد ، وهو خلافاً لغيره من كتاب المنفى ، مثل غسان كنفاني ، لم يقف عند مجرد الرد على ما يقرأ من نصوص أدبية . لقد تجاوز ذلك ليرد على بعض المقولات التي كان يسمعها شخصياً من مواطنين إسرائيليين بحكم كونه عربياً.

فهو ، على سبيل المثال ، لم يكن لينظم قصيدة "سجل أنا عربي" ، لو كان يعيش في بلد لا يضطهد فيه العرب ، أو في بلد كل مواطنيه عرب ، والمخاطب (يفتح الطاء) في نصه الشعري ، كان أساساً شخصاً يهودياً سأله عن هويته ، لقد ذكر درويش في كتابه النثري "ذاكرة للنسيان" ما نصه:

"سجل أنا عربي ، قلت ذلك لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات ، قلتها باللغة العبرية لأستثيره ، وحين قلتها باللغة العربيّة مس الجمهور العربي في الناصرة تيار كهربائي سري افلت المكبوت من قمقمه ... لم أدرك أنني كنت في حاجة لأن أقولها هنا في بيروت: سجل ، أنا عربي ، هل يقول العربي للعرب أنه عربي،، (3).

ولم يقصد درويش أن يعرف بنفسه حين قال أنا عربي ، إذ لو أراد ذلك لقال: أنا محمود درويش من سكان حيفا ... الخ.

لقد أراد أن يتحدى هذا الموظف الذي يضطهد أساساً العرب في دولة إسرائيل، ولا يرى فيهم سوى سرطان يهدد جسم الدولة ، فقال له: أنا عربي ، ودرويش الذي لم يكن ، أساساً ، متزوجاً ، قال إن أطفاله ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف ، ليغيظ الموظف اليهودي وأشباهه ممن يرون في التزايد السكاني العربي خطراً على أمن دولتهم.

ولقد تحولت أنا الشاعر في القصيدة إلى أنا تعبر عن النحن ، فأخذ الجمهور العربي يرددها وكأن كل فرد فيه هو قائلها.

والشيء ذاته يمكن قوله أيضًا في أثناء قراءة المقطع التالي من قصيدة "يوميات جرح فلسطيني":

عالم الآثار مشغول بتحليل الحجارة
انه يبحث عن عينيه في ردم الأساطير
لكي يثبت أني:
عابر في الدرب لا عينين لي!
لا حرف في سفر الحضارة!
وأنا أزرع أشجاري ، على مهلي ،
وعن حبي أغني (4)

والهو في (أنه) هو الآخر ، الآخر الذي لا يعتمد في إثبات وجوده على قوته العسكرية وحسب ، بل إنه يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك: البحث عن جذور له في هذه الديار ، يعمل من خلال إبرازها على أكثر من إثبات حقه فيها: نفي حضور الآخر بالنسبة له – أي الفلسطيني هنا – وإذا ما ذكر الآخر وأشير إلى حضوره فيكتفي بالإشارة إلى الحضور دون الفاعلية أو دون مشاركته في سفر الحضارة.

إن درويش الذي قرأ ، جيداً ، الآخر كان يدرك أن اهتمام الآخر بالحفريات إنما يعود أساساً إلى محاولة الآخر الدؤوبة لإثبات حقه في هذه الديار ، وقد ظلت هذه الفكر ذات حضور في ذهنه ، فقد نظم بعد عشرين سنة تقريباً قصيدته التي لا تختلف كثيراً في مضمونها عن مضمون هذه الأسطر ، أعني قصيدته "لصوص المدافن" (5).

وفقط فان إلمام الشاعر بثقافة الآخر وسياساته، ووعيه المتقدم لمخططاته ، هو الذي جعله يكتب شيئاً من هذا القبيل.

هنا ، أيضًا ، يدرس المرء قصيدة الشاعر " كتابة على ضوء بندقية" مقترنة برواية للكاتب الإسرائيلي (أهود بن عيزر) ، كان درويش قد أشار إليها في مقال نشره في كتابه "يوميات الحزن العادي" تحت عنوان "أنا وأنت والحرب القادمة". (ولنلاحظ هنا أن عنوان المقالة مأخوذ من نص ساخر كتبه إسرائيلي هو (حانوخ ليفين) بعد حرب 1967، وقد ورد ذكره في مقالة (لاهود بن عيزر) تحت عنوان "الحرب والحصار في الأدب العبري بعد حرب 1967" ونشر في مجلة The Jerusalem Quarterly خريف 1978 بالانجليزية. وقد أورد درويش مقاطع من نص (ليفين) الساخر في مقاله المذكور (6).

ويمكن للقارئ أن يتصفح الفقرات الأولى من مقالة "أنا وأنت والحرب القادمة" ليقارن ما ورد فيها بنص قصيدة درويش المذكورة ، لقد صاغ الشاعر جزءاً من نص رسالة الشاب الإسرائيلي في رواية (أهود بن عيزر) شعراً ، ووضعه بينَ علامتي تنصيص ، وتسهيلاً على القارئ أورد ما يلي من القصيدة:

شولميت انكسرت في ساعة حائط
عشرين دقيقة
وقفت ، وانتظرت صاحبها
في مدخل البار ، وما جاء إليها

قال في مكتوبه أمس:

"لقد أحرزت ، يا شولا ، وساماً وإجازه
احجزي مقعدنا السابق في البار،
أنا عطشان ، يا شولا ، لكأس وشفه
قد تنازلت عن الموت الذي يورثني المجد
لكي أحبو كطفل فوق رمل الأرصفة
ولكي أرقص في البار (7)

ويورد درويش نصوصاً من رسالة الجندي الإسرائيلي إلى صاحبته.

ويلخص أيضًا مضمون ما لم يستطع سرده "فما زال الجندي ضائعاً في أزقة القدس وفي البحث عن صديقته ، بعدما حصل على إجازة قصيرة من الخدمة العسكرية. إن القصة تتعامل مع كل ما يحمله الضعف البشري في هذا الشاب ، لا يصف الجيش بحماس الوطني المدرب على الكلام الخطابي ولكنه يصف متاعب العيش والنوم والأكل في العسكر وأشواقه الساخنة إلى البيت والرسائل وللنزهة مع حبيبته" (8).

وهناك أيضاً عبارات في القصيدة مأخوذة من مسرحية (ليفين) الساخرة "أنا وأنت والحرب الثالثة". فالسطران الشعريان الناصان:

نحن لن خرج من خارطة الأجداد
لن نترك شبراً واحداً للاجئين (9).

يردان في مسرحية (ليفين) بطريقة مشابهة نوعاً ما:

لقد حارب صهري في معركة جبل المكبر ولا ينبغي ان تكون حربه عبثاً ، لذلك لزاماً علي أن أقول باسمه لن يعاد أي شبر احتليناه (10).

2-5 معين بسيسو:

رفع معين بسيسو (1930-1984) بعد هزيمة حزيران 1967 شعار "اعرف عدوك"، وقد عكف ، بناء على ذلك ، على قراءة الأدب الصهيوني المكتوب بالانجليزية أو المترجم إليها ، ومن ثم على تقديمه للقارئ العربي ، وقد أسعفه في هذا دراسته للأدب الانجليزي في جامعة القاهرة.

وفي المقدمة التي كتبها بسيسو لكتابه "نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة" (1970) يؤكد على أن "الأدب الاسرائيلي في صلب تكوينه يهدف أول ما يهدف إلى إعطاء المحارب الإسرائيلي ذلك الإحساس بالارتباط "بالوطن" ، بعد مئات السنين من التشريد وأسوار الجيتو ، ولكنه – أي الأدب الإسرائيلي – "ليس كله للدعاية وإن كانت الدعاية في صلب تكوينه ... وليس كله أدباً يطبع في لغة راحت ... أو عدة لغات خارج دائرة اللغة العبرية ... فالروائيون الإسرائيليون والكتاب الإسرائيليون عامة ، يكتبون أول ما يكتبون بهدف ربط المحارب الإسرائيلي بالأرض وإعطائه تلك الدوافع الروحية والوجدانية التي يحمل البندقية دفاعاً عنها" ويتابع بسيسو:" والحقيقة التي يجب أن نتعامل معها ، ومن المفيد أن نتعامل معها بلا نظرة أحادية ، بعيداً عن هستيريا الغوغائية أن المحارب الإسرائيلي ينطلق بقوة الدفع الذاتي للمعركة...والروائيون والأدباء والفنانون الإسرائيليون يسخرون لخدمة هذا الغرض" (1).

وقد أثرت قراءات بسيسو للأدب الإسرائيلي في تشكيل وعيه هذا ، فكتب بالإضافة إلى ما اقتبسناه من مقدمته حول هذا الأدب ، نصوصاً أدبية ، شعرية ونثرية ، جاءت في جزء منها لترد على هذا الأدب وتدحض ما ورد فيه. ويبدو أن قراءاته للأديبة الإسرائيلية ياعيل دايان تحديداً ، حيث تحدث في كتابه المذكور بإسهاب عن رواياتها "ابنان للموت" (2) أثر عليه بوضوح ، وقد جاءت قصيدته "نلقاكم في كشوف القتلى على جبهة السويس" صدى لقراءته هذه الرواية .

وهذه القصيدة التي مهد لها الشاعر بالنص التالي: "كتب بعض طلاب الجامعة العبرية الإسرائيلية على شهادات تخرجهم (إبان حرب الاستنزاف) لبعضهم البعض :

"نلقاكم في كشوف القتلى على جبهة السويس" (3) تتمحور أساساً حول يائيل دايان الكاتبة الإسرائيلية وشخوص روايتها .

بدأ الشاعر قصيدته بالحديث عن الروائية دايان ، ذاهباً إلى أنها تزداد شهرة كلما كتبت رواية جديدة تأتي فيها على ذكر هؤلاء الذين يسقطون صرعى على جبهات القتال:

"تلك اللصة..
تظهر فوق غلاف كتاب
حين يهال على وجهك يا ميريام تراب
وتوقع بالشوكة فوق كؤوس المدعوين
إلى حفلة كوكتيل
حين زجاج النافذة ببيتك
يتكسر يا راشيل" (4)

ويتوجه بسيسو الذي لا يعرف العبرية بالخطاب إلى شخوص الرواية ، قائلاً لهم إنهم ليسوا سوى ضحايا لأفكار خاطئة غرسها فيهم أقطاب الصهيونية: يائيل والجنرال هنا. هكذا يخاطب بسيسو دانيال أحد شخوص رواية دايان "ابنان للموت" :

"أنا لا أعرف حرفاً في اللغة العبرية
كي تقرأ ما أكتب عنك
لو قدر لك
ان تحيا بضع ثوان أو بضع دقائق أخرى
لكن الجنرال سيقرأ في الحمام
وهو يدندن في – البانيو- تحت الماء
اسمك في كشف القتلى في سيناء" (5)

وفي النص الشعري السابق عبارات عديدة ليست سوى ترداد لبعض ما قرأه الشاعر من أعمال أدبية إسرائيلية ، ولكنه ترداد يأتي في سياق ما يرمي اليه بسيسو ، وهو دحض ما يذهب اليه الإسرائيليون الصهيونيون.

إن دانيال في النص الشعري جاء الى فلسطين ولم يتجاوز، بعد ، الخامسة من العمر ليعيش في كيبوتز هرباً من "اوشفتز" ، حاقداً في الوقت ذاته على كل اسم فلسطيني. وحين يصبح طياراً تصفه يائيل دايان على أنه أصبح في طائرة الفانتوم أقرب من أجداده إلى الله، هؤلاءالذين لم يرتفعوا أكثر من ناطحة سحاب.

وهذا هو، تقريباً ، بالضبط حال دانيال في رواية "ابنان للموت". ينجو من معسكرات الإبادة في وارسو ويأتي إلى فلسطين وهو طفل ليقيم في كيبوتز "جلعاد" ، ثُمَّ يصبح جندياً في جيش الدفاع "فيحمل البندقية ويطلق الرصاص ، ويمارس بالتالي عضويته وانتماءه الكامل لهذا الشيء الذي قالوا له إنه إسرائيل" (6) ويكتب لوالده حول وضعه فيرد عليه الأخير قائلاً:

"... وأجدادك الأوائل لم يقتربوا من الرب كما تقترب أنت الآن منه ... فقمة ما وصلوا إليه كان سطح متجر ذي طوابق ثلاثة ... ولكنك جندي باراشوت الآن ... وهكذا أصبحت قريباً من الله أكثر من أبيك ومن أجدادك جميعاً..."(7)

وفي الكيبوتز يكون دانيال قد تدرب على القتل وأصبح يعرف كيف يقتل.

لقد كتبت يائيل دايان العديد من الأعمال الروائية ، وترجم بعضها إلى العربيّة (مثلاً روايتها "غبار")*. ويبدو حضور ما كتبته في أعمال أخرى لمعين بسيسو واضحاً ، وتحديداً في مسرحيته "شمشون ودليلة" التي أصدرها عام 1971. ولعل مقارنة الأقوال التي وردت على لسان الشخصيات الإسرائيلية في هذه المسرحية بما ورد من أقوال على لسان الجنود الإسرائيليين في كتاب (يائيل دايان) الذي نشرته إثر حرب حزيران 1967 تحت عنوان:

(A Soldier's diary) أي "مذكراتي الحربية" ما يجعلنا نجزم أن بسيسو قرأ هذا الكتاب وأفاد منه ، لا على مستوى الأقوال وحسب ، بل على صعيد البناء الفني للمسرحية.

إن مقارنة أحداث مسرحية "شمشون ودليلة" بأحداث القصة كما وردت في العهد القديم، تجعلنا نذهب إلى أن بسيسو لم يقصد في أثناء كتابته نصه إلى إعادة صياغة قصة العهد القديم وفق رؤية خاصة به ، رؤية تختلف عن رؤية السارد لقصة العهد القديم (8).

لقد انتقد بسيسو في كتابه "يوميات غزة" التراث الإسلامي الذي تقبل ببساطة قصة التوراة حول شمشون وحربه مع الفلسطينيين وأضفى عليه هالة من البطولة (9)" ، إلا أنه لم يعد صياغة القصة كما يرتأيها هو.

إن مسرحية "شمشون ودليلة" ليست أكثر من تصوير لواقع النفي الفلسطيني أثر نكبة 1948، وعلاقة الزعماء العرب بالقضية الفلسطينية وما نجم عن هذا من هزيمة مذلة، في حرب 1967 ، للعرب ، وانتصار سريع للإسرائيليين ولّد لديهم شعوراً بالتفوق والغرور الذي لم يضع له حداً ، كما يذهب بسيسو ، سوى المقاومة الفلسطينية. وليس هناك في المسرحية أدنى تطابق بينَ أحداثها وأحداث العهد القديم. نعم ثمة حضور لبعض الشخصيات ولبعض الأحداث ، ولكنه ليس بالحضور الأساس. وتطالعنا في مسرحية بسيسو شخصيات نسوية يهودية ، شخصية (راحيل) مثلاً ، لا نعثر على حضور لها في قصة العهد القديم . وأغلب الظن أن هذه الشخصية هي شخصية (يائيل دايان) نفسها التي شاركت في حرب 1967 على جبهة سيناء ، وقد ورد هذا بوضوح في كتابها "مذكراتي الحربية". وكان بسيسو قد أشار إلى مشاركتها هذه في كتابه عن الرواية الإسرائيلية.

سوف أسوق هنا بعض العبارات التي أنطق بها بسيسو بعض الشخصيات اليهودية في مسرحيته ، وأضع بعدها أقوالاً ، وردت في كتاب (يائيل دايان) المذكور ، وذلك لتبيان ما ذهبت إليه ن من أن بسيسو تاثر بما قرأ وكتب على جبهة الرد.

تقول إحدى الشخصيات الإسرائيلية في مسرحية بسيسو:

"نحن على مرمى حجر من كل عواصمكم
أقرب لأصابعكم
من كل خواتمكم" (10)

وتكتب (يائيل دايان) في كتابها:

"بعد أن تحطم الأمل بالوصول إلى القاهرة ، الحّ على جنودنا ، على الأقل ، أن يقتحموا دمشق" (11)
وتخاطب راحيل شمشون:

"قدرك أن تكسر
أو تتكسر
أن لنا قدراً آخر يا شمشون
غير جميع الناس
أن لنا قدر الأجراس
أن كفت تقرع ماتت
أنا كالمحكوم عليه بأن يضرب بيديه السكين
فلا يجرح
لو سال الدم مات
في الصدر الجرح يميت
في الكف الجرح يميت
قاتلنا الجرح الأول
وعلينا ألا نجرح أبدا" (12)

ونقرأ في كتاب يائيل دايان:

"ما يعني لبلد آخر الهزيمة ، يعني لنا الفناء . نحن لا نستطيع أن نخسر الحرب ، ونبقى في الوقت نفسه على قيد الحياة ، ولما اتجهنا نحو الغرب كان هذا واضحاً لكل واحد منا . البعض فهم هذا بالعقل ، وبأنه ذو دلالة للتاريخ ، وآخرون شعروا ذلك بغريزة بدائية ولكن قوية" (13).

وعموماً فان نهاية المسرحية ، وإصرار الفلسطيني على المقاومة ، وإزعاجه للإسرائيليين ، وهذا ما حدث في غزة تحديداً بعد حرب 1967 ، كان رداً على شعور الإسرائيليين بالتفوق لدرجة الغرور الذي بدأ واضحاً في كتاب (يائيل دايان).

2-6أفنان القاسم:

يعتبر الدكتور أفنان القاسم (1944-) الكاتب الفلسطيني المقيم حالياً في باريس من أبرز الكتاب الذين رسموا في أدبهم صورة للشخصية اليهودية عموماً ، الصهيونية منها وغير الصهيونية ، وكان يعتمد في تصويره لهذه الشخصية على دراسة بعض الكتاب العرب ، لنماذج من الأدب الصهيوني النزعة المكتوب بالانجليزية أساساً ، مثل غسان كنفاني في كتابه "في الأدب الصهيوني" ، وقد بدا هذا واضحاً وضوحاً بارزاً في روايته "النقيض" (1)(1978) ، أو على قراءة نصوص أدبية لكتاب يهود صوروا فيها العرب واليهود ليكتب ، ومن ثُمَّ ، نصوصاً يعارض فيها الصورة المرسومة لكلا الطرفين مبرزاً تصوره الخاص ، وقد بدا هذا واضحاً في قصته "الذئاب والزيتون" (1984)(2) التي كتبها بعد قراءة قصة (كافكا) "أبناء آوى وعرب" (1920) (3) وقد أشار القاسم إلى أنه قصد من وراء كتابته قصته أن يضع مقولات (كافكا) عن اليهود في سياق جديد ، "السياق الذي من المفترض أن تكون فيه-في قصة (كافكا) ، بعد ربطها بالمأساة الفلسطينية – هذا الربط يبقى جزئياً ولا يمثل موقفاً ثابتاً – وهذا هو موضوع قصتي الأساسية ، وقد أثارت قصة كافكا هذه "أبناء آوى وعرب" جدلاً واسعاً بينَ المثقفين العرب ، حدا ببعض المثقفين العرب ، ومن بينهم مثقفون فلسطينيون ، إلى اتهام (كافكا) بالصهيونية (5).

والاشارة التي صدر بها القاسم قصته "الذئاب والزيتون" الناصة "قصة مقابل قصة (فرانز كافكا) ، أبناء آوى وعرب ، من مجموعته المسخ"(6) كافية لأن تدفع القارئ إلى قراءة القصة مقترنة بقصة (كافكا)، ومن ثُمَّ تتبع التأثير الذي تركته الأخيرة على الأولى. وهو تأثير لا يقتصر على بيان رؤية مغايرة لرؤية قصة (كافكا) للذات وللآخر ، وإنما يمتد ليشمل عكساً لبعض المشاهد واستخداماً لعديد من العبارات التي وردت في قصة (كافكا) وتكرارها تكراراً حرفياً.

إن أنا القاص في قصة (كافكا) "أبناء آوى وعرب" هو شخص قادم من الشمال يقص ما حدث معه حين عسكر في واحة ناشداً الراحة بالنوم دون أن يتمكن من ذلك حيث تزعجه أصوات أبناء آوى التي حاصرته فيما بعد لأنها كانت بانتظاره منذ زمن سحيق لتقص له ، بدورها، عن خصومتها الأبدية مع العرب ناعتة إياهم بعدم الفهم والعجرفة وقتل الحيوانات وافتراسها من ثُمَّ ، مشيرة إلى أن أبناء آوى ما خافت العرب قط ، موضحة أن العداوة بينَ الطرفين تقع في الدم ، ولن تكون لها نهاية إلا بسحب دم العرب . وخلافاً للعرب الذين لا يعرفون النظافة تبحث أبناء آوى عن النظافة ولا تريد غيرها. "وسخ بياضهم ، وسخ سوادهم، رمادية لحاهم ، ويجب على المرء أن يبصق بالنظر إلى طرف عيونهم ، وحين يرفعون الذراع يبدو الجحيم تحت إبطهم" (7).

وتحمل أبناء آوى ، لإنهاء هذه الخصومة ، مقصاً صدنا تعرضه على الأوروبي ، طالبة منه أن يستخدمه لقص حناجر العرب.

في المقابل يسرد لنا أنا القاص الحوار الذي دار بينه وبين العرب وما فعله قائد القافلة العربي بأبناء آوى. يحضر العربي جثة جمل نفق في الليل تجتمع عليها أبناء آوى جميعاً. "لقد نسوا العرب ونسوا الكراهية وقد سحرهم الحاضر المنطقي للجثة القوية الممتدة"(8).

ويبدأ القائد العربي ضربهم بالكرباج فينسحيون ليعودوا من جديد، وحين يحاول ضربهم ثانية يمسك القادم من الشمال بيد العربي فيقول له الأخير : "معك الحق أيها السيد" إننا نتركهم ومهنتهم ، وسينفجر الوقت ، هل رأيتهم؟ حيوانات عجيبة. أليس هذا حقاً؟ وكيف يكرهوننا!" (9).

ويبدو القادم من الشمال – أنا القاص – هكذا أرى ، محايداً نوعاً ما، فهو يستمع إلى ما يقصه أبناء آوى عن العرب يطلب منهم أن يخفضوا أصواتهم لأن ثمة عرباً هنا ، كما أنه يستمع إلى العربي ، دون أن يحدد موقفاً ما ، وإن كان يمسك بيد العربي حيث يهم هذا بضرب أبناء آوى ثانية.

ولعل المهم في القصة هو ما يقصه الطرفان ، أبناء آوى والعرب ، عن بعضهما البعض.

وقد ذهب بعض الدارسين الفلسطينيين ، وتحديداً فيصل دراج ومحمود موعد (10) إلى أنّ أبناء آوى ليست سوى معادل فني للصهيونيين في نظرتهم للعرب ، النظرة التي تقوم أساساً على التعالي على العرب واحتقارهم. والشيء ذاته يمكن قوله عن رؤية أفنان القاسم للنص وفهمه له ، ومن ثُمَّ عكف على كتابة قصته "الذئاب والزيتون" ليعارض فيها قصة (كافكا) هذه ، وليضع مقولته –هنا يوحد القاسم بينَ الشخصية القصصية و (كافكا) – عن اليهودي في سياق جديد. فكيف يسير الحدث في قصة أفنان القاسم ؟

تتشكل قصة أفنان القاسم من جزءين ، يمكن للمرء أن يقرأ كل واحد منهما منفصلاً عن الآخر. وإن كان ثمة رابط مشترك بينهما فهو الحديث عن الذئاب في كليهما. ويورد الكاتب المقولات التي وردت على لسان العرب بل على لسان الخيول التي هي في القسم الأول من القصة معادل فني للعرب وتسير الأمور في القصة على النحو التالي:

تحتكم الخيول والذئاب قرب أحد حقول الزيتون إلى أحد القادمين من الشمال بعد أن تكون الخيول قد بدأت بضرب الذئاب. وهي هنا ، خلافاً لقصة (كافكا) ، البادئة في الفعل والقول. وتصف الخيول الذئاب بأنها حيوانات جبانة تريد اغتصاب حقل الزيتون الذي يعود للخيول ، ثُمَّ نستمع إلى الذئاب التي تسوق حججها مشيرة فيها إلى أن الخيول ترمي إلى طرد الذئاب وإبعادها عن الحقل الذي تستظل بأشجاره ، وهي _أي الذئاب- تنتظر القادم من الشمال منذ زمن بعيد، وهذا ما بدا في قصة (كافكا) –أي الانتظار-.

ولا تستجيب الخيول والذئاب لرأي القادم من الشمال القائل في حضرة الطرفين بأن تعيش الخيول والذئاب معاً. ويعرض كل من الطرفين حججه التي يقيم عليها رفضه. ترى الخيول في الذئاب حيوانات لها عادات قديمة في الغدر على الرغم من أجسامها الممشوقة وعيونها الذهبية ، حيوانات لن تتردد في سفك الدماء. وترى الذئاب في الخيول حيوانات من جنس يختلف ، وان الحقل لا يكفيها وحدها فهو منذور لها منذ الأزل ، وترى في الخيول القذارة وحب الدم والأنانية ، وتذهب إلى أن صراعها مع الخيول لن ينتهي إلا بالدم، وبالدم فقط تحقق مهمتها . وهذا ما يرد على لسان أبناء آوى في قصة (كافكا).

ينتهي الجزء الأول من القصة بالمشهد التالي:

"وقضت الذئاب ليلتها وهي تغرس أنيابها في جثث الخيول، فتصير الدماء بركاً، ويصعد منها الدخان ، وتنفتح في الجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة" (11).

ويأتي القسم الثاني من القصة تفصيلاً لهذا المشهد مع اختلاف الضحية هنا. يصحو أنا القاص من نومه فزعاً وهو يحس بأنياب الذئاب تنغرس في جسده، ويستمع إلى طرقات على الباب فيرى ايمان الطفلة قادمة لتسأل عن أخيها شوقي الذي اختفى. ويقوم أنا القاص ووالد شوقي بالبحث عن شوقي ليكتشفا، من ثُمَّ ، ثلاثة ذئاب وإبن آوى يفترسون معا الطفل. "كانت دماء الطفل قد أصبحت بركاً ، وصعد منها دخان ، وانفتحت في الجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة (12).

حقاً إن أفنان القاسم ، كما كتب في إحدى رسائله ، يضع المقولات التي وردت في قصة (كافكا) في سياق جديد بعد ربطها بالمأساة الفلسطينية. فأنا القاص الذي يرى حلماً مرعباً يتمثل في افتراس الذئاب له ، يرى الذئاب وأبناء آوى في كل مكان ، ويتذكر جده عندما قال له عنها: "إنه فصيلة غريبة أتت من الشمال ، ذئاب كانت صغاراً ، ضعافاً تتمزق مخالبها إذا ما سارت فوق الصخور"(13).

وإذا ما نفض جده سوطه كانت تفر هربا من بياراته. وكان جده يقهقه وقتذاك فخوراً متباهياً بقواه! وأنه –أي جده- كان يحتقرها ، ويهزأ من ذكرها ، ولكنها عندما كبرت قتلت والد أنا القاص ومزقته بأنبابها الحادة ، وتمكنت من شرب دمه بهدوء حتّى القطرة الأخيرة ، والتهمته حتّى العظم ثُمَّ صارت لها البيارات مفتوحة.

وما الذئاب القادمة من الشمال في قصة أفنان القاسم سوى رمز لليهود الغربيين الذين جاؤوا إلى فلسطين ليسلبوها من أصحابها. ورؤية أنا القاص هذه هي رؤية الكاتب نفسه.

إن الأشكال الذي وقع فيه دارسو قصة (كافكا) العرب يتمثل في مساواتهم بينَ الشخصية القصصية والكاتب نفسه. فلقد جعلوا من أقوال أبناء آوى في القصة أقوالاً ل(كافكا) نفسه. وهذا ما أشار إليه عبده عبود في دراسته للجدل الذي دار بينَ الكتاب العرب حول صهيونية كافكا (4).

ولم يشر الدارسون العرب إلى أن اليهود في القصة –إن كان أبناء آوى رمزاً لهم- قد مسخوا إلى حيوانات، في حين بقي العربي عربياً ، يتصرف في تعامله بما يسمح له تعفف قبيلته. وقد يرى هؤلاء إلى أن مسخ اليهود هنا إلى أبناء آوى لا يقل قساوةً عن نظرته للعرب الذين لم يتعاملوا مع الحيوانات بالترفع عنها ، وإنما بالنزول إلى مستواها للتعامل معها باللغة التي تفهمها.

على مستوى التأثر الجزئي في القصة يعيد أفنان القاسم نقل العديد من المشاهد والعبارات التي وردت في قصة (كافكا) ، من ذلك مشهد تضييق الذئاب على القادم من الشمال حين لم يوافقهم هذا كلياً في رؤاهم ، ومن ذلك أيضًا مشهد اجتماع أبناء آوى على الجيفة حيث يقابله في قصة أفنان القاسم اجتماع الذئاب على الطفل.

أما من حيث تكرار القاسم عبارات وردت في قصة (كافكا) فهو كثير ، ولعل أهمها ما ورد على لسان أبناء آوى في وصف العرب "النظافة . لا نريد غير النظافة" وقد وردت هذه العبارة على لسان لذئاب في قصة أفنان القاسم " وما نريده النظافة ولا شيء غير النظافة"


هوامش الدراسة

1) كنفاني ، الصهيوني ، 81
في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم 48-1968م" يذكر كنفاني غير نموذج لغير أديب كتب رداً على أقوال فكرية صهيونية (أنظر ص 44-48). ويكمن الاختلاف بينَ هذه الدراسة ودراسة كنفاني ، في أن هذه تتبع نصوصاً أدبية محددة شكلت في جزء منها مادة انعكست في النصوص الأدبية الفلسطينية بوضوح.
هنا يقرأ النص مقترناً بغيره مباشرة لنلحظ أثر نص في آخر.
2) على سبيل المثال يمكن دراسة رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتثائل" (1974) مقترنة برواية الكاتب فولتير (كنديد) التي نقلها إلى العربيّة عادل زعيتر. وكذلك رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" مقترنة مع رواية (وليم فولكنر) "الصخب والعنف" التي نقلها إلى العربيّة جبرا إبراهيم جبرا. وقد أشار دارسون عرب إلى ذلك.
انظر: أبو مطر ، ص (289) كما يمكن دراسة رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" مع مسرحية (برتولد بريخت) "دائرة الطباشير القوقازية" (انظر: الأسطة ، 116 وكذلك نفسه هامش 144.80 ).
وقد أشار د. إحسان عباس في مقدمته لديوان إبراهيم طوقان إلى تأثر الشاعر بشعراء أجانب ، ورأى أن قصيدة "مصرع بلبل" كانت ناظرة إلى قصة "البلبل والوردة" ل (أوسكار وايلد)، انظر طوقان ص2.
3) الأسطة ، 86 هامش 26.
4) نفسه ، هامش 37.
5) نفسه ، ص 86
6) نفسه ، 127 وما بعدها
7) درويش ، شيء ، 123 – 130.
8) نفسه 251 ، وانظر أيضًا درويش : الرسائل 44.
9) درويش ، الرسائل ، 98. وقد صدرت رواية (كانيوك) عام 1985 تحت عنوان (Aravi Tov) ثُمَّ نقلت إلى الإنجليزية.
10) درويش ، شيء ، 43 وما بعدها ، ونشير هنا إلى ما قاله (موشيه دايان) بعد لقائه بالشاعرة فدوى طوقان : "لقد أحزنني رد الجمهور اليهودي على لقائي بالشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان. قرأت هذا النقد: كيف تقرر أنت" يا موشه دايان، يا وزير الدفاع ، الجلوس مع فدوى طوقان ، ثُمَّ تقترح عليها دعوتها إلى هيكل الثقافة في تل أبيب لكي تستمع إلى أشعارها؟".
11) نقل راشد حسين أشعار (بياليك) إلى العربيّة ، ولكن ، للأسف ، لم أتمكن من الإلمام بالترجمات وسنة ترجمتها .
12) شماس ، أنطون : عربسك ، ص 10 عن النص الانجليزي ، أمريكا 1988.
13) حول هذا أنظر: درويش ، شيء 53-75 ، وأيضاً: درويش ، الرسائل ، ص 105.
14) القاسم ، سميح: إلى الجحيم أيها الليلك ، القدس 1977، أنظر مثلاً ص 53 وما بعدها حيث يتحاور السارد –ومن خلفه سميح- مع كتاب يهود.

* هوامش / البدايات

1) فلسطين ، 26/11/1913.
2) فلسطين ، 23/11/1913.
3) نفسه.
4) نفسه.
5) نفسه.
6) فلسطين ، 26/11/1913.
7) فلسطين ، 10/9/1929.
8) فيلد ، اليهودية ، 58.

* هوامش / طوقان

1) طوقان ، 10
2) أنظر: موريه ، شموئيل: اليهود في الأدب العربي الحديث ، القدس 1975 (بالعبرية).
3) أنظر: أبراهام، س. ، اليهود في الأدب العربي في:
The Jerusalem Quarterly No.2, 1977. P. 119-136
4) أنظر Sylvia G. Haim أدب عربي ضد السامية في:
Jewish Social Studies, N17, 1955. P. 307-312
5) طوقان ، 78 وما بعدها.
6) فيلد ، اليهودية ، 53.
7) نفسه ، 52.
8) Altoma, 68
9) رئوبين.
10. نفسه.
11. نفسه.
12. نفسه.
13) طوقان ، 78.
14) نفسه.
15) نفسه ، 80.

* هوامش / كنفاني

1)كنفاني ، الصهيوني ، 28.
2)نفسه ، 21.
3) نفسه ، 24.
في دراسته حياة كنفاني يذهب الأستاذ الدكتور Stefan Wild إلى "أن التشابه البنائي بينَ شتات الفلسطينيين وشتات اليهود ، الغربة و (جالوت) قد يولغ فيه أحياناً من الحركة الفلسطينية والحركة الصهيونية" ويرى أيضًا أن ثمة تشابهاً جزئياً يوجد ، على أية حال، يثير شك" في الطريقة التي وصفت فيها أرض فلسطين في بعض قصص غسان كنفاني وتحديداً في المهمة المطلقة للعودة مهما كانت التكاليف والنتائج والعواقب ، ثمة تشابه قوي إلى حد ما بينَ كنفاني وبين الكتاب الصهيونيين الأوائل (انظر : فيلد: كنفاني ، ص 44).
4) كنفاني ، الروايات ، 43.
5) نفسه ، 344.
6) نفسه ، 360.
7) Uris 324 .
8) نفسه 712.
9) كنفاني ، الروايات ، 344.
10) Uris, 324 .
11) كنفاني ، الروايات ، 406.
12) Uris, 712 .

* هوامش / درويش

1. أنظر: درويش ، شيء ، ص 105 وما بعدها ، وكذلك ص 123 وما بعدها وكذلك : درويش ، يوميات ، ص 91-107.
2. أشار محمود درويش في رثائه غسان كنفاني إلى الدور الريادي الذي قام به الأخير في تعريف القارئ بالأدب الصهيوني حيث كتب : "وفي الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب ، كان يدرس نقيض هذه الكتابة وإحدى مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين" ويتابع: "وقد يكون من المفيد أن نعرف أن الأدب الصهيوني هو أحد وسائل غسيل الدماغ الذي يتعرض له طلبتنا العرب في الأرض المحتلة. ولذلك فإنه يحمل إمكانية تشكيل المكونات الثقافية للشباب العربي الواقع تحت الاحتلال ، بغض النظر عن اتجاه رد فعله عليه: (درويش ، في وصف ، ص 85 وما بعدها).
3. درويش ، ذاكرة ، 92. وانظر درويش ، ديوان ، 121.
وثمة قصائد شعبية عديدة قالها أصحابها بعد صدور أوامر عسكرية إسرائيلية تضيق على العرب . حول ذلك انظر: كنفاني ، الفلسطيني ، 16 وما بعدها. وهنا نذكر أن قصيدة توفيق زياد "على صدوركم باقون" نظمت بعد سلسلة اضطهادات سياسية واقتصادية على العرب عام 1965. (كنفاني ، الفلسطيني ، 44). والخطاب في القصيدة موجه للصهيونيين.
4. درويش ، ديوان ، 560.
5. درويش ، ورد ، 65.
6. درويش ، يوميات ، 97.
7. درويش ، ديوان ، 524 وما بعدها.
8. درويش ، يوميات ، 91 ، وحول مسرحية "أنا وأنت والحرب الثالثة" انظر الشامي، 165-177.
9. درويش ، ديوان 524.
10. الشامي ، 174.

* هوامش / بسيسو

حجازي ، ص 9. العودات (1926-) ص 51.
1- بسيسو ، نماذج ، 6 وما بعدها.
2- نفسه 41-70 وحول الرواية أنظر الشامي 41 وما بعدها.
وانظر أيضًا السعد 41 و 59 وما بعدها.
3- بسيسو ، ديوان 470.
4- نفسه.
5- نفسه 471.
6- بسيسو ، نماذج 51.
7- نفسه.
*ترجمها إلى العربيّة د. هاني الراهب ، ونشرت في مجلة "الموقف الأدبي" السورية في أيار 1974.
8- العهد القديم، كتاب القضاة ، الإصحاح 13-16.
9- بلاّص ، 76.
10- بسيسو ، مسرحيات ، 288.
11-137 ، Dayan .
12- بسيسو ، مسرحيات ، 319.
13- Dayan, 62 .


* هوامش / القاسم

1-صدرت الرواية في دمشق 1978.
2-من 136-147.
3- Kafka, 122-125 وانظر الترجمة الملحقة.
4-من رسالة خاصة بتاريخ 20/2/1989.
5-انظر Abboud, P. 145-173 (بالألمانية).
6-القاسم ، 136.
7- Kafka, 124
8-نفسه ، 125.
9-نفسه.
10- Abboud, 155 f.
11-القاسم ، 140.
12-نفسه ، 146.
13-نفسه ، 143.
14-157 ، Abboud .

اختصارات المصادر والمراجع

الأسطة الأسطة ، عادل: اليهود في الأدب الفلسطيني بينَ عامي 13-1987 ، القدس 1992.
بسيسو، ديوان بسيسو ، معين: الأعمال الشعرية الكاملة ، عكا 1988، ط2.
بسيسو، مسرحيات-----، -----: الأعمال المسرحية ، عكا 1988، ط2
بسيسو، نماذج-----، -----: نماذج من الرواية الاسرائيلية المعاصرة ، القاهره:1970
بلاص بلاص، شمعون: الأدب العربي في ظل الحرب 48-1973، شفا عمرو ، 1984
حجازي حجازي ، يعقوب: معين بسيسو شاعر فلسطين ، عكا 1985.
درويش، ذاكرة درويش ، محمود: ذاكرة للنسيان ، الكرمل ، عدد 21/22 ، 1986
درويش، ديوان-----، -----: ديوان محمود درويش ، بيروت 1987، ط1 ج1
درويش، يوميات-----، -----: يوميات الحزن العادي ، عكا 1979 ط2
درويش، في وصف-----، -----: في وصف حالتنا ، عكا 1987 ط2.
درويش ، شيء-----، -----: شيء عن الوطن ، بيروت 1971
السعد السعد، جودت: الأدب الصهيوني الحديث بينَ الإرث والواقع، بيروت 1981م
رئوبين رئوبين، أ. أنشودة النصر ، جريدة فلسطين 10/9/1929
الشامي الشامي، رشاد: عجز النصر: الأدب الإسرائيلي وحرب 1967، القاهره 1990.
طوقان طوقان، إبراهيم : ديوان إبراهيم طوقان ، بيروت ، 1975
العودات العودات، يعقوب: أعلام الفكر والأدب في فلسطين ، القدس 1992، ط3.
فيلد، كنفاني فيلد، استيفان : غسان كنفاني
حياة فلسطيني، الكاتب تشرين ثاني 1993، عدد 149 ترجمة عادل الأسطة.
فيلد ، اليهودية-----، -----: اليهودية والمسيحية والإسلام في الشعر الفلسطيني
الكاتب آب وأيلول 1992 ، العددان 46/147، ترجمة عادل الأسطة.
القاسم القاسم ، أفنان : الذئاب والزيتون ، تونس 1983.
كنفاني، الفلسطيني كنفاني ، غسان: الأدب الفلسطيني المقام 48/1968، عكا ، د.ت
كنفاني، الصهيوني-----، ----- : في الأدب الصهيوني ، القدس د.ت.
كنفاني، الروايات-----، -----: الآثار الكاملة ، الروايات ، بيروت 1986، ط3.

Abboud: Abboud, Abdo, Deutsche Roman in Arabischen Orient, Frankfurt 1984.
Altoma: Altoma, Salih; The Image of the Jew in Modern Arabic Literature 1900. 1947. Al-Arabiyya II, 1978p. 60. 73
Dayan: Dayan Yael; Mein Kriegstagesbuch, Frankfurt, 1967.
Kafka: Kafka, Franz; Erzahlungen (G.W) Germaney, 1986-p. 122-125.
Uris: Uris, Leon; Exodus, Munchen, 1990. 4 Aufl.




***


نصوص مختارة


* أبناء آوى وعرب
بقلم: فرانز كافكا / ترجمة عادل الأسطة

لقد عسكرنا في الواحة. نام الزملاء. ثمة عربي ، طويل وأبيض ، مرّ بي لقد أمن الجمال وذهب إلى مكان النوم.

ألقيت بنفسي إلى الخلف على العشب ، أردت أن أنام ، لكنني لم أستطع . ثمة ولولة ابن آوى من بعيد. جلست ثانية منتصباً. وما كان بعيداً أصبح ، فجأة ، قريباً. ثمة جموع من أبناء آوى حولي ، عيون صفراء شاحبة منطفئة ، وبطون ضامرة ، وتتحرك كما لو أنها تحت كرباج متواصل وسريع.

ثمة واحد جاء من الخلف ، تدافع تحت ذراعي ملتصقاً بي كما لو أنه يحتاج إلى دفئي خطا ، من ثُمَّ ، أمامي وتكلم ، عينا بعين تقريباً ، معي:

"إنني ابن آوى الأكبر ، من قرب ومن بعد. وإنني سعيد أيضًا لكي أحييك هنا ، فلقد فقدت الأمل لفترة ، إذ نحن ننتظرك طويلاً منذ أمد لا حد له ، لقد انتظرت أمي كما انتظرت أمها ، وكذلك انتظرت أمهاتهم حتّى الأم الأولى لأبناء آوى . هل يعتقد؟".

"هذا يدهشني" قلت ونسيت أن أشعل عود الثقاب المعد لكي تحول رائحته دون أبناء آوى. "هذا سماعه يدهشني كثيراً ، فاني آتي صدفة فقط من أقصى الشمال ، ولقد كنت مشغولاً برحلة قصيرة . ماذا تريدون إذن يا أبناء آوى؟".

وكم يشجع من خلال هذه الصداقة المبالغ فيها ، لقد ضيقوا علي الدائرة ، وأخذوا كلهم يتنفسون نفساً قصيراً ونافخاً "نحن نعرف" بدأ الأكبر يقول: "بأنك تأتي من الشمال ، وعلى هذا عقدنا أملنا. هناك الفهم ، هذا الذي لا يوجد هنا بينَ العرب. ومن هذه العجرفة الباردة ، تعرف ، لا تحس ذرة عقل. إنهم يقتلون الحيوانات لكي يفترسوها ويسيئون استخدام الجيف".

"لا تتكلم بصوت مرتفع" قلت" فثمة عرب ناموا بالقرب من هنا".

"إنك حقاً غريب" قال ابن آوى وتابع "وإلا لكنت عرفت بأنه لم يحدث أبداً في تاريخ العالم أن خاف ابن آوى عربياً. هل انبغى أن نخافهم؟ اليس من سوء الحظ ، بما فيه الكفاية، اننا مطرودون تحت شعب كهذا".

"يمكن . يمكن" قلت: "إنني لا أدعي رأياً في الأشياء التي تقع بعيداً عنّي ، ويبدو أن ثمة خصومة قديمة جداً ، تقع حقاً في الدم ، وربما ستنتهي كذلك بالدم".

"أنت ذكي جداً ، قال ابن آوى الكبير ، وتنفسوا كلهم أيضًا بسرعة ، برئات مهتاجة ، ومع ذلك بقوا هادئين ، وقد انسابت من الأفواه المفتوحة، ولفترة فقط مع اسنان مشدودة ، ثمة رائحة كريهة محتملة ، "أنت ذكي جداً ن وهذا الذي تقوله يلائم تعاليمنا القديمة. يعني نسحب منهم دمهم وتكون الخصومة قد انتهت".

"آه!" قلت متوحشاً ، كما اردت ، "سوف يقاومون ، وسوف ينقضون ببنادقهم عليكم ويرمونكم ، أسراباً ، بالرصاص".

"أنت تسيء فهمنا" قال "مثل نوع الناس الذي لا يفقدون أنفسهم ، كذلك أيضًا ، في أقصى الشمال. طبعاً نحن لن نقتلهم . فالنيل لا يملك ماءً كثيراً لكي ينظفنا . نحن نركض بعيداً ، طبعاً ، أمام الرؤية المجردة لبطونهم الحية ، في الهواء النقي ، في الصحراء التي هي لهذا وطننا".

" وكانت أبناء آوى من حوله ، وقد انضم إليها في هذه الأثناء الكثيرون من بعيد ، قد أحنت الرؤوس بينَ الرجل الأمامية ونظفتها بالكفوف ، كما لو أرادت أن تخفي قرفاً ما ، قرفاً كان مرعباً لدرجة كان من الأفضل أن أهرب من دائرتهم بقفزة عالية.

"ماذا تقصدون أن تفعلوا إذن؟" سألت وأردت أن أقف دون أن أتمكن ، فثمة حيوانان صغيران تمكنا من عضي من الخلف من المعطف والقميص . واضطررت لأن أبقى جالساً. "انهم يثبتون ذيلك" قال ابن آوى الكبير موضحاً وأيضاً بجدية "علاقة شرف". "عليهم أن يتركوني" صرخت ملتفتاً مرة للكبير ، وثانية للصغير . "طبعاً سيتم ذلك" قال الكبير. "عندما تطلب ذلك. ولكن ذلك يستمر فترة ، وحسب العادة فقد عضا عميقاً ، ووجب أن يخلصا الأسنان ، ببطء ، من بعضها البعض . وعليك في هذه الأثناء أن تسمع دعوانا". "إن سلوكهم جعلني لهذا غير مصغ جيداً" قلت. "دعنا لا نجازي لباقتنا" قال: وللتو استعان للمرة الأولى بنبرات صوت حنجرته الطبيعية. "نحن حيوانات فقيرة تملك الأسنان فقط ، ولكل شيء ، نريد أن نفعله ، الخير والشر تبقى لنا الأسنان فقط".

"ماذا تريدون إذن؟" سألت بهدوء قليل فقط.

"أيها السيد" نادى فولولت أبناء آوى جميعها ، وفي أقصى البعيد بدا لي أن هناك ثمة لحناً ما" أيها السيد ، عليك أن تنهي الخصومة التي قسمت العالم إلى قسمين. هكذا كما ـأنت –وصف ذلك أجدادنا- هو الذي سيفعل ذلك. علينا أن نحصل على السلام من العرب ، هواء قابل للتنفس ، منهم نظرة نظيفة حول الأفق ، لا صوت جرس خروف يذبحه العرب ، يجب أن تنعق الطيور كلها بهدوء ، ودون ازعاج يجب أن توضع المشروبات أمامنا وأن تنظف حتّى العظام . النظافة ، لا نريد غير النظافة".

وللتو بكوا، شهقوا جميعاً. "كيف تحتملهم أنت في هذا العالم ، أنت صاحب القلب الشريف والأحشاء الحلوة؟ وسخ بياضهم ، وسخ سوادهم ، رمادية لحاهم ، ويجب على المرء أن يبصق بالنظر إلى طرف عيونهم ، وحين يرفعون الذراع يبدو الجحيم من تحت إبطهم. لهذا ، أيها السيد ، هذا أيها السيد الغالي ، وبمساعدة أياديك الوافرة كلها ، بمساعدة أياديك الوافرة كلها قص بهذا المقص حناجرهم!" ولاحقاً لهزة رأسه مر ابن آوى حاملاً على زاوية فمه ما يشبه مقصاً صغيراً يعلوه الصدأ.

"المقص ، إذن ، ختاماً ، وبه ستكون النهاية" صاح قائد قافلتنا العربي الذي تسلل الينا معاكساً الريح ، وللتو لوح بسوطه العملاق. وتراجع كل شيء بسرعة ، ومن بعد ، لكن ، بقيت أبناء آوى مقرفصة جميعاً بتراص ، الحيوانات الكثيرة هكذا متراصة وجامدة ، وبدا لو أن ثمة حظيرة ضيقة ، كما لو هربت من شرود.

"إذن لقد رأيت أيضًا ، أيها السيد ، هذه اللعبة وسمعت" ، قال العربي وضحك بفرح ، كما يسمح له تعفف قبيلته. "أنت تعرف إذن ماذا تريد الحيوانات؟" سألت. "بالطبع، أيها السيد" قال. "هذا كله معروف ، طالما هناك عربي ، يتجول هذا المقص في الصحراء ، وسيبقى يتجول معنا حتّى يوم القيامة. وسيقدم لكل أوروبي لعمل كبير . كل أوروبي هو للتو ذلك الذي يبدو كفئاً لهم . ثمة أمل بلا معنى تمتلكه هذه الحيوانات ، مجانين ، حقاً مجانين ولهذا نحبها ، إنها كلابنا ، أجمل من كلابكم. انظر فقط ، ثمة جمل نفق في الليل ، لقد تركته يحضر هنا".

وجاء أربعة حمالين وألقوا بالجيفة الثقيلة . وبالكاد استلقت الجثة هنا حتّى رفعت أبناء آوى أصواتها.

كما لو كان كل واحد مسحوباً بحبل ، وبلا مقاومة جاؤوا إلى هنا ، ملعثمين ، ملامسة بطونهم الأرض. لقد نسوا العرب ونسوا الكراهية وقد سحرهم الحاضر المنطفئ للجثة القوية الممتدة.

وللتو تعلق احدهم بالرقبة واجداً ، مع العضة الأولى ، الشريان. وكقنبلة سريعة خاطفة وجب حقاً أن تطفئ ، بلا أمل ، حريقاً فظيعاً ، جرّ ودفع كل عضلة من عضلات جسده إلى مكانهم . وبالطريقة نفسها، لفترة ، ارتفع الجميع عن الجثة عالياً إلى الجبل.

هنا ضربهم القائد ، بقوة ، بكرباجه الحاد بالطول وبالعرض . لقد رفعوا الرؤوس نصف مذهولين وبلا قوة . ورأوا العرب يقفون أمامهم وقد أصبحوا الآن يشعرون بالكرابيج ، فانسحبوا قافزين وركضوا مسافة إلى الخلف . لكن دم الجمل وقع بالضحك هنا ، دخن إلى الأعلى ، وكان الجسد مفترساً في أماكن عديدة.

لم يستطيعوا المقاومة ثانية ، ومن جديد كانوا هنا ثانية ، ومن جديد رفع القائد الكرباج، فأمسكت بذراعه.

"معك الحق أيها السيد" قال: "إننا نتركهم ومهنتهم ، وسينفجر الوقت ، هل رأيتهم . حيوانات عجيبة ، أليس هذا حقاً؟ وكيف يكرهوننا!".


***


* الذئاب والزيتون
بقلم: أفنان القاسم

* قصة مقابل فرانز كافكا "أبناء آوى وعرب" من مجموعته "المسخ"

من مجموعة "الذئاب والزيتون ، الدار العربية للكتاب ، تونس 1983 ، ص 137-147

احتكمت الخيول والذئاب ، قرب أحد حقول الزيتون ، إلى أحد القادمين من الشمال. كان قادماً لأجل أن يستثمر الثمر الذي تحتاج مصانعه إلى زيته الصافي ، فوجد الخيول بحوافرها مبعدة إياها عن الأشجار ، وقالت الخيول: "هذه الحيوانات الجبانة ، أيها السيد القادم من الشمال ، تريد اغتصاب حقلنا ، وقتلنا ، ونحن ، كما ترى ، نعيش أباً عن جد في ظل الزيتون ، ولنا سروج مذهبة ، صنعتها لنا زوجاتنا ، وقضت في صنعها سنين وسنين ، حتى إذا ما علا أحد عليها ارتاح ، وبدا جميلاً.

وانحنى أحد الخيول ، ورفع القادم من الشمال على ظهره ، فعمته الراحة ، وأحس فعلاً بأنه عال وجميل ، مثل الأشجار ، وأنه في مستوى واحد منها.
وقالت الذئاب: "هذه الخيول من الشعوب ، أيها السيد القادم من الشمال ، تطردنا كلما اقتربنا من أشجار الزيتون ، وأردنا أن نستظل بورقها ، هكذا نحن منذ الزمن القديم ، نبحث عن بقعة تدفئنا ، فنحس بأنفسنا كأننا شخص واحد غير منفصم . وبعد أن جعلتك الخيول فارسها ، بإمكانك أن تفعل شيئاً لأجلنا ، نحن من كان ينتظرك منذ زمن بعيد".

ورفضت الخيول رأي القادم من الشمال ، القائل ، في حضرة الطرفين ، بأن تعيش الذئاب والخيول معاً ، وقالت: "حقاً للذئاب عيون ذهبية ، وأجسام ممشوقة ، ولكن لها أيضاً عادات قديمة في الغدر ، وأنياب ماضية ، وهي لن تتردد عن سفك الدماء. طوال عمرها تعيش في الجبل أو السهب ، في الضباب وفي البرد ، ما معنى أن تأتي عندنا؟".

ورفضت الذئاب رأي القادم من الشمال ، القائل ، في حضرة الطرفين ، بأن تعيش الخيول والذئاب معاً ، وأخذته على حدة . وقالت له أنها من جنس يختلف ، والحقل لها وحدها لا يكفيها ، وهو منذور لها منذ الأزل. وعندما اقترح القادم من الشمال أن تعيش الذئاب مع ذئاب أخرى في بلده ، لها ما لها ، وعليها ما عليها ، رفضت الاقتراح ، وذكرت القادم من الشمال بأنها خارجة على القانون دوماً ، وأنها ما قدمت إلا تحقيقاً لمشاريعها الخاصة بها أولاً، ثم لمشاريعه هو في استثمار الحقل ، وأنه أمام تعالي الخيول وعنادها لن يحقق من مأربه شيئاً ، أما معها فسيضمن سير مصانعه على الأقل نصف قرن من الزمن ، عندما رأت في وجهه إمارات التردد بدلاً من الشعور بالذنب ، جعلت اثنين منها شابين ينشبان أظافرهما في ذيل معطفه وقميصه ، وباقي الذئاب تبكي وتنتحب مهيبة بالقادم من الشمال أن يسمع صراخ الإنسانية ، ولكي ينجو بنفسه ، أخذ يضربها بحذائه حتى أنزف له الدماء من خراطيمه ، ولكنها لم تطلقه . وصاحت الذئاب بالقادم من الشمال: "أنت مخلصنا ، فلا تنس وعدك لنا!" وصاح القادم من الشمال بالذئاب: "أنت ظلي المتحضر رغم أنك ذئاب أكرهك مثلما أكره شمس هذه المنطقة المحرقة! أيتها الذئاب البشعة!" وعادت الذئاب تصيح: "نحن ذئاب بشعة ، ونحن فخورون بذلك! أما أنت فستبقى أحد القادمين من الشمال ، يفصلنا عنك تاريخنا ، ويجمعنا بك تاريخك. والمهم أن نقتل ونطرد تلك الخيول المتوحشة ، فهي قذرة ومحبة للدم وأنانية ، وما نريده هو النظافة ولا شيء غير النظافة!" وراحت الذئاب تشحذ الأنياب ، والرائحة الكريهة تفوح ، أشداقها وتجعل القادم من الشمال يقفل أنفه مشمئزاً ، وحاول إيقافها ، فقال: "دعوني أمتطيها واحداً واحداً ، فتلك الخيول على رشاقتها تفتقد العقل الذي عندكم ، وسأبعدها إلى الصحراء دون قتال". فشكت الذئاب في قدرته ، وشكت في نيته ، ولم تستمع إليه ، راحت تحضر للقتال ، فصراعها القديم لن ينتهي إلا بالدم ، وبالدم تحقق مهمتها ، وتسمع الخيول المؤمنة صلاة الذئاب ، فتطرب للتراتيل ، ثم ترميها بنظرات الاحتقار دون مبالاة كأنها كلابها.

وعندما اكتشفت الخيول ما تعزم عليه الذئاب ، كشفت للقادم من الشمال عن قلقها ، فهداها بالبلاغة والمال أو الخمر وبعض النساء. وانسكبت الدماء أنهاراً تحرق أشجار الزيتون ، فاشتعل في الليل أحمر ، وقضت الذئاب ليلتها ، وهي تغرس أنيابها في جثث الخيول ، فتصير الدماء بركاً ، ويصعد منها الدخان ، وتنفتح في الجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة.

_________

هببت من نومي فزعاً ، أحس بأنياب الذئاب تنغرس في جسدي. وما لبثت أن وصلتني طرقات على الباب ، ولم تمهلني الطرقات ، إذ ازدادت ارتفاعاً. قفزت من السرير، وبعجلة ، فتحت الباب ، فألفيت طفلة متكومة على نفسها كوردة الجبل. سألتني بصوتها العذب:

-ألم يأت عندك شوقي؟

انحنيت حتى لامست كتفها ، وكان الضوء المتسلل من شق الباب يرشق وجهها الأسمر ، فيندف شعرها في الليل:

-لا يا شاطرة ، لم يأت عندي شوقي.

تخلصت من يدي ، وتراجعت خطوة:

-نحن نبحث عنه ، فلهو لم يعد للدار.

ثم أشارت بيدها ، وهي تومئ أسفل الدرجات:

-هناك أبي ينتظر.

وجاء صوت جهوري ، فطن وشديد ، ينادي:

-إيمان!

فجرت الطفلة حتى رأس الدرج ، وأبوها يسأل:

-هل وجدته؟

-السيد يقول لم ير شوقي.

نقلت خطواتي حتى استطعت أن أتبينه . كان يقف أسفل المصباح ، قصيراً ، صلباً ، يتجلى على جبهته قلقه على ولده.

-لا ، أشكرك ، إنني أبحث عن الولد ، فهو لم يعد للدار . ولأن من عادته أن يأتي عندك ، قلت ربما احتجزته لسبب ما.

هبطت الدرجات ، والطفلة تقفز في حضن الليل.

سألته ، وأنا أسلم عليه:

- هل من عادته أن يتأخر هكذا؟

- لا ، وهذا دافع الغرابة.

- غريب حقاً.

قالت الطفلة لأبيها : - تعال نسأل هناك.

وأشارت نحو مركز جنود الاحتلال في الوادي.

أجاب الأب :- إنه لا يذهب إلى هناك يا إبنتي.

- وهل بحثت في المنطقة؟

- بحثنا ، لكننا لا نجد له أثراً.

- بحثتم تماماً؟

- أظن . أليس كذلك يا إيمان؟

- لم نبحث فوق الهضبة.

قلت: بإمكاننا أن نبحث حتى شجرة الزيتون,

واستأذنت لارتداء ملابس ، وعدت بسرعة لتقطع الليل . وبعد خطوات ، انتبهت على الطفلة تمسك بيدي . كانت أصابعها باردة.

وثمة رعشة فيها كالنفخة اللذيدة ، وكنا نسير صامتين : أين ذهب الولد؟ أين يمكن أن يذهب؟ ليس من الطبيعي أن يختفي على هذا النحو! فكرت بجنود الاحتلال المنتشرين في الوادي ، وبالذئاب على الهضبة ، ونظرت إلى الأب الكاتم لأنفاسه ، فانقبض قلبي.

أخذنا نسير في قلب الهضبة ، في الطريق الحجري ، وكانت النجمات قد أخذت تتناثر على الصخور بضوئها البارد . وأسفل شجرة الزيتون وقفنا ، وكانت تفرش أغصانها في الليل دون حركة ، وكأنها جمدت منذ دهور. وكان ضوء السماء يضفي عليها لوناً فضياً بارداً انعدمت فيه الحياة.

اختفى الرجل ، وهو يبحث ، وأخذت الطفلة تشد يدي بقوة. أحسست بقطرات العرق تسيل من أصابعها ، وتذوب في راحتي ، ولكن يدها ظلت باردة كقطعة الثلج. استدرت نحوها ، فوجدتها تحدق في الليل.

تركتني فجأة ، وراحت تقفز جارية. ناديتها ، فلم تلب ، كانت تريد اللحاق بأبيها. وفي اللحظة ذاتها ، تسلل من هذا الصفاء العتم صوت رخو راح يسيل في السمع: عواء إبن آوى أو ذئب! مما جعلها تعود بسرعة ، وتلتصق بي ، ضامة نفسها من حولي ، وهي تردد:- الذئب !الذئب!

وضعت يدي على شعرها ، وقلت:

-لا تخافي ! لا تخافي!

كنت أجمع رطوبة الشعر ورغوة العواء وهذه اللزوجة السوداء في كل مكان والتي لا يمكن وضع حد لها. عاد العواء من جديد يثير النفور والتقزز ، ويعزز في النفس سخريته ، ويبعث فيها اشمئزازها.

ابنا آوى والذئاب في كل مكان تماماً مثلما كان حلمي المرعب ، وتذكرت جدي عندما قال لي إنها فصيلة غريبة أتت من الشمال ، ذئاب كانت صغاراً، ضعافاَ، تتمزق مخالبها اذا ما سارت فوق الصخور. وإذا ما نفض جدي سوطه ، متباهياً بقواه! وكم كان يهزأ من ذكرها ، ويحتقرها! لكنها عندما كبرت ، قتلت أبي ، مزقته بأنيابها الحادة ، وتمكنت من شرب دمه بهدوء حتى القطرة الأخيرة ، والتهمته حتى العظم ، ثم صارت لها البيارات مفتوحة.

طوال الوقت ، لم تنبس الطفلة بحرف واحد ، كانت تستسلم على ذراعي ، مسلمة لي أمرها: لقد كان العواء موتها! أردت أن أفعل شيئاً، فانتبهت على خطوات تتدحرج صوبي. جاء الأب يلهث، فسألته:

-هل وجدت أثراً؟

أجابني:

-هناك ابن آوى أو ذئب ، وقد عدت لآخذ البنت للدار ، ولأجلب عصا أو أي شيء آخر.

وقفزت الطفلة على يدي أبيها ، وتسلقته بلهفة ، ثم احتضنته ، ودفنت رأسها في عنقه. وما لبث الأب أن رجاني:

-اذهب يا سيدي ، اذهب . لن أزعجكم بالبقاء. ما عليك سوى أن تذهب وسأبحث وحدي. أكثر الله من أمثالك!

وسار خطوة ، فقلت:

-سأنتظر ريثما تعود ، سنتعاون معاً ، وأنا بدوري أريد الاطمئنان على الولد.

لم يفه بحرف واحد ، راح يعدو بالبنت ، دائراً من وراء الهضبة. وما أن اختفى حتى تعالى العواء من جديد ، فشعرت بوحدتي ، وخوفي ، وضممت ذراعي من حولي ، وسرت خطوة ، فتعثرت بحجر تناولته ، ونقلت ثلاثة أحجار أخرى ، وتوغلت في الاتجاه الذي ذهب اليه الرجل قبل أن يعود بالبنت ، فإذا بجسم يرتطم بقدمي ، ثم يقفز ، وفج بريق شرس من عينين كاسرتين ما لبث أن انسحق في الليل. وسمعت وقع خطوات قصيرة عادية تلاشى ، فابتلعت لعابي ، وتقدمت ببطء ، ثم حثثت خطاي ، فإذا بصوت ناحل مجنون يئن في الليل ، كأن القلب مذبوح ، والنصل يغوص! أنين طويل طويل طويل ، عميق عميق عميق ، عمق واد بلا منتهى: عو... و ... و ...! رحت أعدو حتى وطئت باب المغارة ، كانت الحفلة تقوم هناك أربعة : ثلاثة ذئاب وابن آوى تتزاحم رؤوسها في الوعاء الدسم! صيحة من الأعماق أطلقتها ، ورحت أصب حجارتي لأكسر شهوة الرؤوس. فقفزت مذهولة ، وهمرت بثغور دموية ، ورمقتني بأعينها الذهبية الكامدة التي تضيء وتنطفئ ، ولذعرها راحت تصطدم بأجسامها الممشوقة التي تتحرك بخفة وليونة ، كما لو كانت تضرب بالسياط ، كانت قد ابتعدت من فوق الصخور ، هابطة نحو الوادي ، وأنا أسمع أنفاسها القصيرة المتلاحقة ذات الصفير.

تقدمت بحذر ، جامعاً حجارة أخرى في الوقت نفسه ، الى أن رأيته ، ولم أصدق أني رأيته! كانت دماء الطفل قد أصبحت بركاً ، صعد منها دخان ، وانفتحت بالجسم جروح كثيرة في أماكن عديدة . انحنيت ، ونقلت على ذراعي ذات الشكل الطريف الوحشي لأعضاء بشرية معجونة بالدماء. وسرت عدة خطوات ، فاذا بنصل يبرق كعين الذئب ، كأن حربة بندقية تناولتها ، وتابعت طريقي حتى شجرة الزيتون . وكانت أنفاس الأب الصغيرة المتلاحقة قد راحت تصلني ، وسمعته يسأل عن مقربة:

-هل وجدته؟

وعندما وقف قبالتي ، قلت له :

-وجدته!

وألقيت الأشلاء بين يديه ، فانشل ، وعجز عن الصراخ ثم زحف عني مبتعداً ، وقد بدأ يصلني بكاؤه المكتوم . التفت فيها حولي حذراً ، فرأيت بقعاً حمراء تدور بالشجرة ، وتأملت أغصانها الفضية ، المفروشة ، بثمرها الصامت بالليل ، كنا معاً فوق الهضبة ، أنا وشجرة الزيتون والبقع الحمراء ، وفي الوادي بعض الذئاب ، كانت قد ذهبت لتأتي بأخرى . ونظرت مرات الى الشجرة ، ونظرت مرات الى الحربة ، وجاءني عواء الذئاب من بعيد ، فعزمت على البقاء استعداداً للمواجهة القادمة. أشعلت النار في أكوام من العشب جمعتها ، وتحرك الزيتون مع مجرى الريح.


***


* أنشودة النصر
نظمها الشاعر اليهودي رئوبين
(معربة عن جريدة دوارها يوم)

أحاط بنا الأعداء ، ألبوا علينا المدينة والقرية ، وفتحت الصحراء فاها خرج الفلاحون من أوكارهم ، من دير ياسين مأوى الذئاب ، من المالحة التي تبني بأموال اليهود،من قالونيا ، من شعفاط من بيت صفافة ، ومن صور باهر مكمن اللصوص ، تجمعوا من منازلهم ، وجاءوا بالعصي بتظاهرون ، وكان السلاح الناري ، مخبوءاً تحت عباءاتهم .

تقاطروا من أنحاء البلاد : أشرار يافا نفاية البحر العكر ، وجاء وحوش الصحراء للبلد من جبال : اليهودية ومن سهول أريحا ، جاءوا للتنكيل والتدمير والسلب.

حاربنا أعداءنا على أبواب القدس ، وماجت الجموع في مسجد عمر ، حتى كأن المسجد مغارة قطاع طريق ، أو بيت معد لعشرات الألوف من قاذورات سكان فلسطين .
حرضهم المحرضون فأجابوهم بما في مناطقهم من خناجر:

"هيا بنا الى منازل اليهود ، منازل اليهود الغنية التي لا حماة فيها.

تعالوا نضرب اليهود . نقتلهم . نذبحهم . نرث أموالهم كلها.

وانقسموا الى قسمين رئيسيين ، اتجه أحدهما الى باب العامود ، الى دار الحكومة ، وهناك وقفوا بالباب وتلقوا النصائح ثم عبروا الميدان والشارع ذاهبين الى ميشوريم.

أفسح البوليس العربي المجال ، واندفع فارس الصحراء الى الشارع ومدّ خرطومه في حلق الشارع اليهودي . بدو سود تتدلى شعورهم. رجال حرب منذ الطفولة ، وخلفهم الفلاحون يموجون بمن فيهم من التماسيح.

المعتدين ، وأبناء الارستقراطية الخبثاء المداورين.

حينئذ خرج رجال إسرائيل ، نزلت بقية الشعب العظيم . نزلوا وسلاحهم مسدد الى وجوه الأعداء وأيديهم مستعدة للعمل.

شقت القذائف النارية قلب الصفوف الأمامية . وشق الرعب قلوب الألوف فولوا الأدبار يعلوهم الخجل. أبناء القرى وأبناء الصحراء معاً، والشرطة أيضاً ، وكان الارستقراطيون أسرع في الفرار. ناجين بالأرواح.

وأما القسم الثاني فولى وجهه شطر طريق يافا وجبارين هنوس وعين موشة (أحياء يهودية في القدس). هاجوا وماجوا واندفعوا الى البيوت يقتلون وينهبون. وحينئذ ارتفع يمين موشة فجزت رقاب أبناء إسماعيل الذين هلعت قلوبهم وذابت. من سبعة طرق هربوا من البلد يتزاحمون مكتوفي الرؤوس رجمهم شبابنا بالأحجار ، وبصقت نساؤنا في وجوههم. كيف فر أبطال العرب؟ كيف صاروا خفاف الأرجل في الهزيمة.

ووقف الهاربون بعيداً في الجبال فنظروا هزيمتهم وعدوا جرحاهم ، وكان الجرحى أكثر من الخجل. وبعد ذلك أرسلوا وفودهم للمدن والقرى يقولون "امنحونا إعانات".

جاءوا من أنحاء البلاد . ملأوا التلال كالجراد . عسكروا في مدينة داود.

أحاطوا بها من كل فج. وكانت بنادقهم بنادق جنود معدة للقتل ونطاقاتهم مثقفة الرصاص.

وظلوا يتواردون ، ويتوارد عليهم السلاح الناري بالسيارات من مستودعات القدس ومن المستودع الضخم الذي أعد بدراهمنا في شرق الأردن.

ثبتت أقدام المدافعين فلم يتقهقروا ، وامتدت أيديهم فلم ترجع فارغة.

فما أكثر قتلاكم يا أبنا هاجر؟

تقهقر العدو يعلوه الخجل: فر كالكلب المضروب ذنبه مدلى الى الأرض.

وقام حراس صهيون فحافظوا على الطرق وهناك سيارة مسرعة فلحقوا بها وأوقفوها وقسموا بينهم ما كان فيها من أسلحة جيدة منتخبة.

وأطل "ملز" العميد من الشباك متسائلاً:

لماذا تقهقر الجيش العربي ؟ لماذا تزعزعت أقدام أفراده العديدين؟ وقد رد عليه موظفوه الأذكياء ، قائلين: ها هم يضربون ويدمرون ، ها هم يقطعون نسل إسرائيل . وها هم يذلون عزة اليهود. واجتمع المشايخ والموظفون ورؤساء العائلات يتشاورون في جحورهم. اجتمعوا في المدينة القديمة لا يجرأون على الخروج منها . أرسلوا المناشير فوزعت في أنحاء فلسطين: صرخة مرة وغليان ثعبان قد داسته الأقدام.

وجاء في المنشورات : "الله لنا. فاز أعداؤنا في القدس. استولوا على المسجد ذبحوا أبناء عمنا. نحن وحدنا الذين نجونا . تعالوا أنقذونا!

ولكن من ينقذكم يا مختلقي الأكاذيب ، يا زعماء العائلات النبيلة. يا شجعاناً في ذبح العزل من السلاح ، وفي شق بطون الحاملات وفي سحق جماجم الأطفال.

على من تتكلمون وجموعكم ذابت، ورموش الصحراء قذفهم الهواء الى حيث كانوا. ووحوش القرى تفرقوا كالغنم بغير راع بل كالقطيع الخائف المنزعج ، قلوبهم كقلوب الأرانب ، أو كقلوبكم أنتم تماماً. يا أبناء صهيون الشجعان ، يا من كرستم أنفسكم للتضحية ، وأنتن يا بنات صهيون المخلصات ، وأنتم يا أبناء الشعب الذي لا يخضع.

اخرجوا جميعاً راقصين على نغمات الطبول . أنه يوم عيد لنا في القدس عيد النصر للأجيال القادمة وأنتم اسمعوا يا من في الخارج.

لقد كانت الحرب في سبيل صهيون المقدس ، في سبيل مدينة داود الجديدة. المدينة التي حزمت وسطها واستعدت ، وخرجت مقابلة أعداءها جميعاً ثم هزمتهم وفرقتهم بسيفها ونبالها.

اسمعوا هذا يا من في الخارج . تعالوا إلينا عشرات الآلاف. تعالوا لنتقوى ونفوز. حينئذ تهمد فلسطين ونعيش مطمئنين


***


* إبراهيم طوقان:
في الرد على رئوبين شاعر اليهود

نشرت الجريدة اليهودية (دوار هايوم) قصيدة لشاعر اليهود رئوبين ، نقلتها إلى العربيّة جريدة فلسطين . وعنوان القصيدة "انشودة النصر" ، أتى فيها الشاعر على الحوادث الأخيرة في فلسطين مشيداً بذكر اليهود وشجاعتهم ... في الطعن والضرب زارياً على العرب (أبناء هاجر وإسماعيل..!) خوفهم ووحشيتهم وهزيمتهم! زاعماً تارة أنهم عزل مظلومون وان العرب على تسليح الانكليز لهم كانوا لصوصاً وقطاع طرق وأهل خيانة وغدر يعتدون على الأطفال والشيوخ والنساء. وقد نظمت هذه القصيدة رداً على أنشودة النصر غير معترض كثيراً إلى الحوادث بقدر اعتراضي إلى تاريخ اليهود وتوراتهم وما عرفوا به من قبل ، وما هم عليه اليوم من الادعاء الباطل والغدر ونكران الجميل مما يناقض كل ما ادعاه الشاعر رئوبين وما وصف به قومه من المزايا والأخلاق.

هاجر أَمنا وَلود رَؤوم = لا حَسود وَلا عَجوز عَقيم
هاجر أمنا وَمنها أَبو العر = ب وَمِنها ذاكَ النَبي الكَريم
نَسب لَم يَضع وَلا مزقته = بابل أَيُّها اللقيط اللَئيم
وَدُم في عُروقنا لَم يُرقه = سَوط فَرعون وَالعَذاب الأَليم
يَعلم الدَهر أَيّ أهرام مصرٍ = ذَلّكم في صُخوره مَرقوم
هَرم خالد يَغشّيه ظل = مِن عُبودية لَكُم لا تَريم
أي رئوبين غطِّ وَجهك حَتّى = لا يُرى الأَنف أَنهُ مَهشوم
يَا يَهوديُّ كَيفَ علمك بالتو راة قُل لي أَم فاتَكَ التَعليم
بَينَ أَسفارها خَلائق عَنكُم = مبتداها وَمُنتهاها ذَميم
يوسف باعَهُ أَبوكم يَهوذا = إِنَّ حُب الدينار فيكُم قَديم
وَكَفرتم بِنعمة اللَه حَتّى = ضاقَ ذَرعاً بِالكفر موسى الكَليم
شهد التيه أَنَكم شَعب إِسرا = ئيلَ شَعبٌ مُنذُ الخُروج أَثيم
يَشهد العجل أَن أَلواح موسى = يَوم زغتم أَصابَها التَحطيم
وَبُطون التاريخ فيها عَجيب = وَغَريب بعاركم موسوم
أَي رئوبين أَينَ أَلواح موسى = وَالوَصايا فَكلهن قَويم
هُن عشر نبذتموها جَميعاً = وَرتعتم في الغَي وَهُوَ وَخيم
وَنَقَضتُم أَحكامها فَإِذا الما = ل مَقام الإِلَه فيكُم يَقوم
وَالربا رَبكم لَهُ صَنَم الحر = ص مِثالٌ أَنتُم عَلَيهِ جثوم
وَإِذا السبت فيه مكر وَغدر = أَين فيهِ التَقديس وَالتَعظيم
وَعَكستم آياتها فَإِذا القَت ل مُباح وَالفسقُ فيكُم عَميم
فَجَهلتم حَق الجوار وَصحتم = أَيُّها الناس حقنا مَهضوم
كُلكم شاهد عَلى الحَق زوراً = هَل أَتاكُم مِن شَأنِهِ تَحريم
حسبكم لا يُبارك اللَهُ فيكُم = إِن شَيطان بغيكُم لَرَجيم
فَلو أَنَّ النُجوم أَمسَت رجوماً = ما عدتكم وَاللَه تِلكَ الرجوم
أَي رئوبين أَي شَعب تُنادي = إِن رَبّاً أَباده لَحَكيم
أَي رئوبين هَل قَرَأت شكسبي = ر بَلى أَنتَ شاعر مَشئوم
وَشكسبير خالد القَوم فيكُم = أَمر شيلوخ في الوَرى مَعلوم
غَير أَن الَّذين مِنهُم شكسبي = ر تَناسوا ما قالَ ذاكَ العَظيم
يا يَهوديّ هَل سَمعتَ بِشَعب = ضَلَّ حَتّى في كُلِ قُطرٍ يَهيم
شَعبكم كَالذباب في كُلِ أَرض = مِنهُ شَيء عَلى القذور يَحوم
وَعَجيب مِن العَجائب أَن يَط = لب حُكماً وَدَهرَهُ مَحكوم
وَغَريب مِن الغَرائب أَن يَج = مع شَملاً شِتاته مَحتوم
غَضَبُ اللَه ما يَزال عَلَيكُم = وَعد بلفورَ دونَهُ مَهزوم
نادِ أَبطالك الَّذين تَواروا = في الشَبابيك إِنَّهُم لقروم
يَرقبون الأَطفال مِنا فَإِن لا = حوا رَموهم فَهالك وَكَليم
في يَديهُم سِلاح قَوم عَلَيه = أَسَدٌ في حَديده مَختوم
نادِهم يَقذِفوا القَنابل وَاِصرَخ = شَعب صَهيون أَعزَل مَظلوم
وَالعن الأنكليز وَاحمل ظباهم = إِن نَكران فَضلهم لَجَسيم
لبن الأَرض فاضَ سماً زَعافاً = وَدَماً فَاِنزلوا بِها وَأَقيموا
وَاِشرَبوه ملء البُطون هَنيئاً = هَكَذا تَشرب الذِئاب الهيم
يا يَهودي لا عَليك سَلامٌ = وَإِذا شئت لا عَلَيك شلوم


14 أيلول 1929

(1)نواقض الوصايا العشر

(2)تاجر البندقية لشكسبير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى