سايمون أبرام أكودنيال - قضية مؤجلة.. قصّة قصيرة

كانت المعلمة نيبوث توأمة، رقيقة القلب ،فائقة الجمال، بشامة صغيرة حلوة تنتصب بزهوٍ، في الجزء الأسفل من خدها الأيسر، تزيد محياها فتنة، أما صوتها ففيه شيء خبيء من السحر، ما إن نسمعه حتى يدغدغنا إحساس مجنون يبعث على الخدر، لكأنما هب علينا في الفصل موجة من نسيم عليل.. لم أنس مرة، كان القدر قد مَنَّ عليَّ فيها بمعروف، نتج عنه حصولي على الدرجة الكاملة ذات إمتحان شهري، حيث دنت مني نيبوث لتمرر يدها الغضة على راسي مشجعة، لن تصدق فرحتي حينذاك إثر اللمسة الحانية التي دثرتني، ولما إعترتني من قشعريرة بهية يصعب وصفها.. ولكن هانذا أُضرب كالحمار الأجرب وينكل بي أمامها الآن، كخنزيرٍ ملعون خبيث، أي هوان هذا؟!.
كانت عينا أستاذ منقار حمراوين على الدوام ، تشتعلان كالجمر الحامي، بجبهة ممتلئة شلوخًاً، يتنزل منها العرق مدراراً كمطر غاضب، وفي غمرة الإهلاك هذه يباغتني بسؤالٍ بُعيد الضربة الخامسة:
- كم؟(يقصد عدد الضربات).
- ست. (محاولاً التذاكي عليه).
- خمس أيها الكثيف الذهن ، ألا تعرف الحساب أيضًا؟!.
قال هذا هادراً بصوتٍ قبيح كصورته وهو يسقط الضربة السادسة في منتصف ظهري، ضربة تمزق الأنسجة، ضربة تليق بالجواسيس الباغية القتلة، لا التلاميذ الودعاء البررة.. لقد آلمتني هذه أكثر من سابقاتها، ليس لتعمد ذاك ايقاعها في موضع أكثر حساسية، بل لما تسببت من رعدة لمعلمتي نيبوث في مجلسها، ضغطت على شفتها السفلى بأسنانها القمرية، طرفت عيناها وهي تلحظ ملحمة سحل تلميذها شزراً دون حيلة، فاللوائح هنا لا تسمح بردع الزميل علانية وهو يؤدي واجبه المقدس، عدا ناظر المدرسة وحده، هو من يملك هذا الحق، ولكن حتى هو إن أراد ذلك ، يجب عليه أن يفعلها بطريقة أكثر كياسة.
كنت أترجى في داخلي لو يأذن لي هذا المسخ الأغبر الذي يسحلني بالاقتراب من معلمتي ، لمواساتها على ما أمر به إزاءها من تنكيل، غير أن الوحش لم يزل يُعمل سيفه البتار أعني سوطه على عجزي، حتى إختتم العقوبة بضربة عاشرة في يافوخي كدت أسقط بسببها مغشياً فرط الإرتطام، ثمة معجزة هبطت للتو.. رأيت صورة نيبوث بثياب بيض وجناحين كبيرين وسط النجوم تجوب عرض السماء كملائكة تأتبط رسالة إلي الأرض، حتى لبستني مسحة من قوة إستثنائية أبقتني منتصباً كالوتدِ المتين العنيد، بل كنبيٍّ يتأهب لتسلمِ وحي.
لن يمر هذا دون عقاب هذا المجرم الجلف، لن أشكيه لوالدي فهو رجل لطيف وعقلاني وقور، لن ينطلي عليه فكرة عقاب هذا المارد غليظ الفؤاد، أبي سيحاول تفهم أمر عقابي بوداعة، بل سيربت على كتفي بعطف مشجعاً إياي، أن لابد دون شهد المستقبل الرائع من إبر الآلام والمشقات.. هذا ما يمليه عليّ حدسي، وهو لعمري نهاية لن أكون معها سعيداً.
أطبق الشيطان وأجناده على أفكاري ،أقاموا هرجاً ومرجاً في رأسي، يستنفرون تظاهرة كبرى، يحرضنوني على وجوب رد إعتباري بل كانوا يقولون صراحة بوجوب رد ثأري، يحاولون اقناعي أن "من ضربك بهذه الطريقة فقد قتلك حقًا ".. كنت قد دنوت من منزلنا ، يفصلني عنه شارعان فقط ، لكني عرجت يميناً قاصداً زيراً للسبيل أمام أحد منازل الحي، إغترفت لنفسي كوبين من الماء البارد السلس، إنتزعاني من أتون التظاهرة أقصد التفكير.. ولكني قلت في نفسي ألا مناص من البحث عن عمي المكين "أكول" المكني بأجياشول هو الأصلح لمثل هذه الأحوال، سيكون عليّ إكرامه بمبلغٍ زهيد من الجنيهات بدءاً، ليجترع به كأسين أو ثلاث من "الأمبوقي" تلك الجعة المحلية الصنع ، فهي كافية لضمان تأييد كامل من "الأنكل" والوقوف معي في خندق واحد وإن كان أمام جحافل من الأعداء.. كنت أفكر في أمر مواجهة الشرير منقار بجدية أكبر.
حِدْتُ عن المنزل ، يممت وجهي شطر شجرة النيم العجوز المنفردة على شاطئ النيل مقيل العم أجياشول.. أخاله رجلاً رومانسياً فهو يدرك كيف يتخير الأماكن الرائعة، الشجر والفيء، النيل والسماء، حيث تأخذك النسائم إلى عوالم أخرى، أقل ما يمكن أن توصف بها إنها رومانسية.. وجدته وهو مستلقٍ على قفاه.
كان ثوبه مسحوبًا إلى صدره، مثبتاً بيده اليمنى، وتدور اليسرى فوق بطنه الملتمع المنتفخ، يتجشأ بين الحين والآخر، ولا يأبه لذبابتين تحاولان تعكير جوه، بممارسة الحب عنوة على جبهته، بينما عيناه تصطرعان غفوة أخالها لئيمة لذيذة.. عندما اقتربتُ ، تعرف عليَّ منذ الوهلة الأولى فباغتني بسؤالين متتاليين:
- هل أنت بخير، هل من خطب ما؟!
أجبتُ سريعاً بالنفي، تظاهرت كأن لا شيء هنالك البتة.. كان ذلك مناورة مني، كنت لا أريد إفساد استراحته، ففضلت إرجاء الأمر لميعادٍ آخر، لكن لا ضير من بسط مقدمة تليق بالقضية المؤجلة.
- لا أرغب في إفساد وقتك الثمين ،لكني في حقيقة الأمر كنت في حاجةٍ ماسة إلى محادثتك، ربما غداً إن شاء الرب وعشنا.
قلت ذلك بينما يدي تسحب ورقتين من العملة من جيب بنطالي المدرسي، واحدة من فئة الواحد جنيه والثانية من فئة الخمسة جنيهات، كانتا مطبقتين بعنايةٍ فائقة، وقد بدت عليهما آثار القِدم ،وهما من النعم التي يجود بها صندوق الإدخار السري خاصتي، مررت الفئتين لعمي طالباً إياه تناولهما معتذراً لقلتها.
هبَّ أجياشول من رقدته عندما عبرت رائحة الجنيهات قبالة منخريه شبه الواسعتين وقد إرتسمت على صفحته أمارات البهجة العميقة، فأخذ يكيل لي أرتالاً من الشكر الجزيل، وهو ينبس بعبارات مبهمة بلغتنا المحلية، لم أتبين أغلبها إلّا القليل، غير أني حزرت أنه يفاخر بإبن أخيه الجوّاد الذي هو أنا.. استأذنته بالمغادرة بعد أن أكدت له ضرورة محادثته في الغد، كان الجو صحواً، إلّا من هدير ثيران أفراس النهر المتعاركة على الإناث في النواحي القريبة.
عندما أسفر الصبح معلناً ميلاد اليوم التالي، كنتُ ممتلئاً غبطة وسروراً، وثمة نشاط إضافي رائع يعتريني ،أسير عند انتقالي حيناً وأهرول أحياناً، كنت أناجي نفسي:
إنه اليوم الموعود، لا أطيق إنتظاراً، سنضع حداً لهذا المسخ الشرير منقار، كاد يلقي بي في التهلكة لولا لطف السماء. حشدتُ بعضاً من زملائي التلاميذ ونحن نتجه صوب شجرة النيم على الشاطئ طلباً للعم أجياشول.
كانوا يشايعوني وقد أبدوا حماساً أكبر، وهم يرسمون صوراً سينمائية عجيبة في مخيلاتهم يحكونها لي بأساليب درامية فيقهقه الجميع بتهكم وشماتة كبيرين:
" منقار يرزح تحت أرجل أجياشول".." منقار تطلق عقيرته صوتًا مزعجا طلبًا للنجدة".. " منقار يسترحم أجياشول كي يفك رقبته".. كنا ننهب أزقة الحي نهباً، وبينما نغوص في خضم تخيلاتنا، لاح عمي أجياشول وهو يستحث خطاه وقد بدا أنه في عجلة من أمره ، قال لي بعد أن ألقى تحية الصباح :
- سأعبر إلى القرية ، لقد بعثوا لي بضرورة الحضور لأن أم أولادي تتمخض للولادة، أخبر أباك وأمك بهذا.
ألقى عمي الكلام على عواهنه، كنا- أنا وزملائي- في حيرة وخيبة من أمرنا، غادر هو على وجه السرعة، لم يبق له أثر سوى آثار حذائه الكبيرة جداً المرتسمة على الأرضِ، ورائحة الأمبوقي – تلك الجعة المحلية الصنع – المنبعثة من بين جناحيه.

سايمون أبرام أكودنيال
( كاتب قاص من دولة جنوب السودان)


جائزة محمد سعي ناود #للقصة القصيرة
مكتبة أغردات العامة



(القصّة القصيرة التى حازت على إشادة، و تقدير عالٍ من لجنة تحكيم جائزة محمد سعيد ناود للقصّة القصيرة في دورتها السابعة للعام 2021م، التي تنظمها سنوياً؛ مكتبة أغردات العامة “الجهة الراعية للجائزةà

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى