محمد محمود غدية - أمى

إبتسامتها تسقي جفاف الروح، سكرها زيادة يتحاشاها مرضى السكر، الصبح يستمد من وجهها الإشراق والضياء ، غمرت كل من حولها بالحنان ،
وغرست الزهور في أرض لا ينفع فيها الزرع فأينعت وأزهرت، لها قدرة مدهشة علي إمتصاص التعب والقلق، والربت بحنو بالغ على المشاعر،
يغالب دمعة حبيسة أصرت على السقوط، فى غيابها زحفت الظلمة وتمددت واكتسحت الروح، يشعر بتعاسة لاحد لها، لم يعد يرى فى عينيها بحارا من اللؤلؤ، وشموسا من الدفء، يتلفت حوله يلمس جفاف الأشياء بجانبه.
هو أكبر الأبناء والأكثر إلتصاقا بحضنها، كان حين يبلله المطر، يلجأ إلى الإختفاء تحت معطفها، تربت عليه تهدهده بين إرتعاش الشفاه وإصطكاك الأسنان، لايخلد الى النوم إلا إذا أمدته بالدفء، ما الذى يجعل الحزن عاجزا عن الرحيل، لاشيء سوى بضع آيات يحفظها عن ظهر قلب، تهدئ من روع الغياب، عطرها الممزوج بالزعتر والمسك يخترق كل ما يلقاه ويصرعه، مشوق للدفء من كفيها، وللضياء من عينيها،كيف تقنع روح بالعودة بعد رحيلها ؟
مارست الموت وحدها، دون أن تشرك أحدا معها، عام كامل وبضعة شهور وهي تتوجع وتتألم وتنتحب فى صمت، قالت للأولاد : أنها وجدت عملا يتناسب مع خبرتها فى الترجمة لشغل الفراغ الذى تعيشه بعد رحيل زوجها، تستقبل الحياة بروح طيبة مرحة، تحرص كل الحرص ألا تدمع عيناها، حتى لايراها الأبناء فى إنكسارها، وهى التى منحتهم الأجنحة القوية المعينة على التحليق، يموت منها جزء كل يوم، كل شيء من حولها باهت تحيط به هالة من ضباب مصغر منذ أن تسلل إليها ذلك المرض البغيض الذى لاشفاء منه، إخترعت العمل الذى لاوجود له، حتى لايسأل الأولاد أين تذهب كل صباح .. ؟
تتمدد علي سرير الوجع فى المستشفى، تأخذ جرعة الكيميائي الذى يمنحها بعض حياة، سقط منها الشعر الذى أخفته خلف باروكة الشعر المستعار، والتى لاتعوض أبدا الفقد، لم تمتد يدها لنقود الأولاد التى تركها الزوج بعد رحيله وصانت الأمانة، باعت الخاتم وأساور الذهب والعقد هدية عيد زواجها، وإستبدلتهم بذهب صيني رخيص، حتى لايستشعر الأبناء غياب الذهب، تضع على وجهها كمية من المساحيق ، لتخفى شحوب الوجه يخذلها الموت، ولايأتى سريعا كما تتمنى، هي أشياء لايدركها المرء
تفرد أجنحتها، تأخذ الأبناء والأحفاد فى حضنها، ترتاح لدفء مشاعرهم تكبح دموعها، كيف لروح نابضة أن تمارس الموت ؟
لديها طاقة من الصبر والتجلد لايقدر عليها أحد،
سنوات عمرها يسقطها المرض كأوراق خريف ذابل، رائحة ضفائرها موغلة بذاكرة الأبناء، لم تقدر الجدران الصماء وصرير أبوابها الموصدة على حجب تقاسيم وجهها، وهى المضيئة والباهرة والنبيلة والأصيلة، حتى وهى تموت،
تركت أرقام الهاتف ووصية أودعتها أمانات المستشفى، تعتذر فيها عما أصابها من مرض، وإختراعها عمل لا وجود له، لتجد مبررا للذهاب كل يوم إلى المستشفى، ثروة والدهم مودعة بالكامل بأحد البنوك، ميراثا شرعيا وهى تؤكد على أهمية الترابط بين الأبناء، عندما يجرح أصبع في اليد يصرخ المتألم قائلا : أخ !
وهى تعني النجدة بالأخ،
الحب هو الأصلح فى تقوية العلاقات،
فاتورة المستشفى سددت بالكامل من مدخراتها وذهبها، تعتذر لأنها لم تتمكن من إبقائها لهم،
كابدت الآلام وحدها، لم تجهد الأبناء فى رحلة مرضها الذى أخفته طويلا عنهم، يرتشفون الهم كل يوم وهم يغلقون الباب دونها، فى غيابها غابت الشمس وحجبتها غيوم ثقيلة، لايدرون بآى اللغات يبكونها،
وموتها بدد كل اللغات .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى