عبد الفتاح المطلبي - الضحية

(يمكنُ أنْ تكونَ الضحيةُ إنساناً أو شعباً أو بلداً ويمكنُ أن يكونَ المجرمُ إنساناً أو حاكماً طاغياً أو جيشَ بلدٍ مُستعمِراً غاشماً)

أفاقَ(ع) وركامُ الظلامِ يحيطُ بهِ إحاطةَ موجٍ بغريقٍ، يداهُ ورجلاهُ موثقتان برباقٍ كالذي تستخدمه جيوشُ هذا العصرِ في أسرِ ضحاياها، عَلِمَ ذلك حين حاولَ أن يفعلَ شيئا ولكن عبثا كانت محاولتُه، لا أملَ في أن يُفكَ وثاقـَهُ المصنوعَ من هذه الربقةِ القوية، الزمنُ يمر ببطىء شديد، اللحظةُ مثلُ دهرٍ تمرعليه ألقيَ في هذا المكان المظلم إلا من ثقب صغير في زاوية السقف الشرقية يتسرب منه خيط من الضوء كلما ارتفعت الشمس إلى ضُحاها ومن خلاله يدرك الضحيةُ أن الوقت هو النهار ثم لا يلبث أن يطبق الظلام عندما تدور الشمس باتجاه الغرب وعند ذاك يحيد الضوء مُزْوَرّاً عن الثقب فيشكلَ على الضحية(ع) أن يعرفَ عن زمنه أي شيء، كان المسكين غائبا عن الوعي قبل ذلك إثر ضربةٍ على مؤخر الرأس ولما أفاق وجد نفسه على هذه الحال، مضت دقائق ثقيلة ما بين انتباهته وبين شعوره بأن هناك من يتربص به، الظلمةُ حالكةٌ، شعر بقشعريرة تنتاب جلده المُكَدّم، حين أطبقت على عُنقه كفّا (ص) الثقيلتان، سحبتاه إلى الحائط وراحتا تضغطان على عنقه بقوة وببطئٍ شديد وأصابعهما اللتي تشبه الكلاليب تنغرز في حنجرته وتضغطُ عليها وبينما بدا الأمرُ محتوما وإن حشرجات نفسه المقطوع بدأت تخور وتضعف وبينما كان اليأس يملأ الفراغات المتبقية في جسد الأمل الميت حدثت المعجزة، شعر أن كائنا آخرَ أكثر حضورا وأكثر ثقلا يتنفسُ في هذا الظلام المطبق، كان الثقب يبث بصيص ضوئه عندما دخل الرجل العملاق الأشقرالمدجج بمُدى وفأس ومسدس وبندقية وعيناه اللامعتان تنظران حولهما ببرود وقد أهوى بمديته الحادة والكبيرة على عنق الرجل الغاشم المدعو(ص) الذي كان منكباً على ضحيته منشغلاً بكتم أنفاسها ببطء وهو يقول للقادم المهيب لحظات يا سيدي وسأنتهي منه وبعد ذلكَ عليك أن تفيَ بوعدكَ لي ودون أن يشعرذلك الخنّاق بجدية مدية العملاق الأشقر تدحرج رأسه منفصلا عن جسده وخارت قوى القبضتين حول عنق الضحية(ع) الذي لم يصدق أن أملا قد تحرك مستردا ومضاته في رأسه، وبينما كان العملاق الأشقر يضيء المكان المظلم بضوء مصباحه القوي الذي وضعه جانبا ارتسمت علائم فرح لا يصدق على وجه الضحية التي رأت أيضا علائم ابتسامة باردة على فم المنقذ العملاق الأشقر الذي كان يرتدي قميصا رُسم عليه تمثال الحرية الشهير ولم تكن الضحية قادرة على استبيان أية مشاعر في تلك اللحظة غير أن الإبتسامةَ وما يوحي به تمثال الحرية جعلا بصيص الأمل أكثر التماعا، حمل العملاق مصباحه وأغلق باب المعتقل تاركا الضحية(ع) موثقةً كما هي صحبة الرجل الخناق(ص) وقد فُصِل رأسُه عن جسده، كان الرأس المقصول يوحي للضحية بما يملك من تبريرات لكل ما حصل وكان على الضحية أن تصدق تلك الإيحاءات فحجة الرأس المقصول قوية وإن خلاص الضحية لا زال بعيدا عن المنال لكن الضحية أدركت وهي على حافة الخطر الماثل أن الموت ابتعد قليلاً بفصل الرأس عن الجسد ولم تعد تشعر بإنفاسه المميتة، في المكان بقي الزمن على حاله تمرُّ كل لحظة منه كدهر إلاّ أنّ هناك شبحَ أملٍ يهاجم دماغَ الضحية(ع) الذي لا زالَ حياً لحد هذه اللحظة، تسرب قليلٌ من الضوء من الثقب الصغير في الأعلى ساقطا على الرأس الذي بدا ملتفتاً إلى الضحية(ع) وكأنه يُكلمه: الآن عليك أن تقلق كثيرا أيها البائس! لمَ ذلك وقد خلصني من كفيك المميتتين؟ستتمنى ذلك الموت حين تدرك أنني كنت سأختصر عليك الطريق!
أشاح بوجهه بعيدا عن الرأس، راحت الوساوس تتحرك وتتكاثر مثل دودٍ لامع على جثة حيوانٍ نافق بيد أن الرأسَ المقصول(ص) استمر يحدق في وجه ضحيته(ع) شامتا بالضحية التي تركها مُخلصها موثقةً تنزف وساوسا وريبة وخيل للضحية(ع) أن الرأس المقصول راح يضحك مما آل إليه الأمر كانت هناك فرصة لتذكر لحظات جميلة مرت في حياة الضحية متعجباً من سرعة مرورها الخاطف بينما كانت الدقائق تمر بعد اندحار الآمال مثل دحرجة حجر كبير وأصم من الوادي إلى قمة جبل ماثل في الخيال وكأن سيزيف قد مثل أمام المنظور قائلاً: لا فائدة ..لا فائدة ليس في مقدور أحد الهروب من قدرة وبعد مرور كثير من الوقت و موت كل الآمال فتح العملاق الباب وراودت الضحية أفكار متفائلة بأنه ربما قد أتى لفك وثاقه وربما ملاطفته أو تقديم بعض الطعام له وربما الإعتذار له على تأخره وتخيل أنه سيقول له أن ظروفا قاهرة قد أخرته وإنه آسفٌ لذلك أشد الأسف،..بقي العملاق واثقا أزاء الضحية الذي لا زال حياً وكأنه يفكر بماذا يبدأ أيبدأ بفك وثاق اليدين أم يبدأ بالساقين المكبلين هكذا كان الضحية يفكر وينتظر، تحرك العملاق الأشقر الذي أنقذ الضحية من صاحب الكفين الخانقتين وأطاحَ برأسه، تحرك نحو الضحية فانتعشت الآمال في نفس الضحية لكنه كان يحمل فأسه الكبيرة وسكينه الحادة التي كانت في قبضته كجزء منها، وبسعادة بالغة كانت الضحيةُ تنظرُ للسكين، تصور الضحية(ع) أن السكين ستقطع تلك الربقة التي توثق اليدين لكن السكين ذات الشفرة المرهفة ابتعدت قليلا عن الربقة وأطاحتْ بأصابع الضحية، اختلط العويل بالتوسلات والدموع، راح الأشقر يتفحص الأصابع المقطوعة على ضوء مصباحه ثم ألقى بها قرب الرأس الذي بدا كما لو كان مستغرقا في الضحك بينما أغمي على الضحية من شدة الألم ،أخرج الأشقر عدة إسعاف كانت معلقة على كتفه وراح يخيط جروح الضحية ويرش عليها مسحوقا مقاوما للعفن ثم لفها بضمادة وخرج تاركا الضحية غائباً عن الوعي عندما غادر الوعي الضحية حضر الرأس المقصول كما هو مقصولا بفم مفتوح وكأنه يضحك ويقول: سيفك وثاق يديك حين يبتر كفيك ببلطته بضربة واحده. كان الم جروحه لا يطاق وكأن قلبه قد تسلل إلى موضع البتر ،مرت ثلاثة أيام عندما حضر وكأنه قد خرج من العدم، راح يتفحص الجروح المتقيحة وقد دب فيها العفن الغنغريني، كان الضحية(ع) يئن بتوسل، هزّ الأشقر القوي رأسه مغمغما: إنك لا تريد أن تموت حتما، كل ما تبقى لديك هذا النفس الصاعد النازل وأنت لا ترغب بتوقفه، علينا أن نبتر الكفين، كانت الخشبة حاضرة والفأس مرهفة الشفرة والزيت يفور، ورغم أنه قد أقحم قميصا عتيقا بفم الضحية لكنه أطلق صرخة مكتومة حملت رعب العالم بأسره في تلك اللحظة وغاب عن الوعي، كان العالم الذي انتقل إليه كورقة مُجعدة اجتثت من أصل دفتر مرتْ عليه هلاوس كتبت بحروف ملتوية للغات جيوشٍ غاشمة مغول وسلاجقة وإنكليز وأمريكان، هكذا وبالطريقة ذاتها والأعذار نفسها فعل الشيء ذاته مع قدميه فعاد بلا كفين ولا قدمين وحين شُفيت جروحه سقطت ربقتا قدميه ويديه واستحال كائنا زاحفا على مرفقيه وركبتيه وعندما هاجمه الجوع والعطش مهددا ما تبقى له من حياة الزاحف زحف ببطء نحو إناء الماء وإناء فيه بعض ما يُبقي له رمقٍ الحياة، كان الضوء يتسرب من الثقب وكان الرأس المقصول قد تحول إلى جيفة ولكنه بدا مكشرا وكأنه يضحك، وتهيأ له أنه سمعه يقول: الآن قد فك وثاقك فاهنأ بحياتك الجديدة كزاحفٍ أيها المسكين، أما كان الموت أجدر[1]؟




[1] قصتك المنبثقة من صرخة ألم حاد، تلخيص لمسرحية واقعية تراجيدية بامتياز... عرضْتها بمشهد واحد يجذب كل أحاسيس القارئ إلى قطب الحسرة والنقمة ... بسميائية متمرسة لاحقت كل تفاصيل المأساة وألقت القبض على أنفاس القارئ متلبّساً بانتفاضة ضد الطغيان..(ميادة أبو شنب –ناقدة وشاعرة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى