عبد الفتاح المطلبي - الحلمُ شرقاً

(قد يكونُ هذا العالم جحيمُ عالمٍ آخرَ….ألدوس هكسلي)

كان الوقتُ عصراً أو ضحىً ، لستُ أكيداً، الوقتُ تشابهَ عليَّ كتشابه البقر على قوم موسى ،غيابٌ تامٌ لقرص الشمسِ التي لم تبخلْ بذيولِ ضيائها الشاحبِ ،لم أكنْ متسكعاً ، كنتُ أقصد ذلك االمكان الذي يشبهُ صندوقا كبيرا وكأنني قد قررتُ الأمرَ سَلَفاً، دلفتُ إلى الداخلِ على يميني وعلى يساري عضّادتا الباب الضخمتان من خشب البلوط ، أعرفُهُ جيداً ذلكَ النوعُ منَ الخشبِ كان لجدتي صندوقاً منه يوماً ما، تُخفي فيه أسرارَها وكنتُ أتلذذُ بشمِّ رائحةِ خشبِهِ وهي تحثُّ دماغي الصغير على تخيل ما بداخله من كائناتٍ حكاياتها التي لا تنتهي وحين تملُّ من لجاجتي ويهوّمُ النومُ على عينيها تعدُني بأنها ستخرج لي من الصندوق حكايةً جديدة حين أتركها لتنام ، الآن و أنا أدلفُ إلى هذا المكان شممتُ الرائحةَ ذاتها، صار رأسي بعد ذلك أسيرَها، تقدمتُ خطوتين إلى الداخل فانتبهتُ إلى أن أحدَهم وكان مألوفاً جدا يرافقني ، لم أتوصل لتحديد ملامحه بالضبط بسبب ملامح وجههِ الغائمة لكنني مع ذلك ممتلئٌ بيقينِ معرفته تماما كما كنت متيقنا من مخلوقات صندوق جدتي من قبل، ربما كان من سكان ذلك الصندوق ، لم أحفل حينها بالأمر وكان سلوكه طبيعيا كأنما كان ينتظرني على الباب ، رحنا نخترق المكان، الناسُ يجلسون على أرائكَ صفوفا، وهم منشغلون بما يعنيهم وأظنني سمعتُ دمدمةً مكتومة بيد أن واحدا من الجالسين قد بلغ الهِرَمَ وشابَ شعرُ رأسهِ نهضَ من مكانه واحتضنني برفق ثم شد على كفي بكفه كما يفعل الأصدقاء والمقربون، كان غائمَ الملامحِ أيضا و في دخيلتي كنت أعرفه مدركا أننا نحنُ الثلاثة نتشارك أمراً ما لكنني لم أستطع تحديد ذلك الأمر ولا هوية الرجل الأشيب أو نوع صلتي به تماما كحال رفيقي، كل ما أعرفه أنه شخصٌ مألوفٌ ،إذ أن الرجلَ ذا الوجه الغائم الذي رافقني عند الباب كان كمن يسمع أفكاري فيهز رأسه موافقا، قال الرجل ذوالشعرالأبيض:

-هم ينتظرونك ،أينَ كنت؟

كان ذو الوجه الغائم يوافقه بهزة رأسٍ دائما ، أكملنا تقدمنا في المكان الذي يشبه صندوقاً كبيرا ببابين ، لا أتذكر أنني رأيت عينا أو أنفا أو فماً كلهم كانوا لايملكون تلك الأشياء يتكلمون من وراء غبش وخرجنا من الجهة الأخرى إلى فضاء الشارع الممتد إلى الأمام وكأن الغرض من دخولي إلى المكان كان لمقابلة الرجل أبيض الشعر أو لإعلامه بأمر قدومي وحين تقدمنا في الشارع على الرصيف الذي تكتنفه الفوضى وتحتشد فيه النفايات هنا وهناك وبقايا قطع من طابوقٍ مكسور ينتشر على الأسفلت الذي بدا وكأنه قد عانى من صيف طويل ولم يمسسه ماء ، قطع الطابوق المنتشرة على وجه الشارع تسردُ واقعةً قد حصلت في المكان وأن معركةً بالحجارة قد حدثت ومازالت آثار دماء كثيرة حولنا هنا ، وددتُ أن أوجه سؤالا إلى رفيقي ذي الوجه الغائم وعندما رفعتُ نظري إليه كان يهز رأسه موافقا وفهمتُ أنهم أخفوا وجوههم بعد تلك المعارك لتجنب شعورهم بالعار وفي تلك اللحظة انفتح فرعٌ من الشارع على يمين الطريق ، نظرتُ إليه كان دربا موحشا على جهتيه آثار مبانٍ مهدمة تلوح على بقايا أسوارها بضع كلمات من قبيل (يحيا العالم الحر)والنصف الأخيرمن كلمة ديمقراطية وزعانف قنبلة هاون عليها حرفا us وحرف ثالث لم يبق منه إلا جزءه العلوي الذي يشبه رأس السهم، ينتهي الشارع بضبابٍ كثيف ولستُ أرى له من نهاية وكأنه يغرق في ركامٍ من غبش، بدا خاويا إلا من بقايا خلفتها حياة هجرت المكان منذ زمنٍ بعيد وعندما دلف صاحبي وهو يحاول سحبي إلى ذلك الفرع من الشارع يمين الدرب الذي نسير عليه ،انهمرت دموعي بغزارة ومرت في مخيلتي صور ضحايا أحرقتهم القنابل الآتية من البحر ومن الجو ، صور الأطفال المدفونين تحت الأنقاض ،الطفلةُ التي كانت ترضع حلمتها الإصطناعية ولم يستطع الموت انتزاعها من بين شفتيها، امتنعت ولم أطاوعه واقترحتُ عليه أن نكمل الطريق مادام الشارع الرئيس ممتدا قلتُ لهُ :

- لنعرّج على جهة اليسار أنا بحاجة إلى منديلٍ لكفكفةِ دموعي لعلي أجده هناك ، نظر إلي من خلال وجهه الغائم مستنكرا فأردفت:

- ولنمسح هذا الغيم من وجهك أيها الرفيق لعلي أعرفك

رفض ذلك بشدة وكان يحرك رأسه يمينا وشمالا بحركة رفض واضحة فقلت:

-لنمسح آثار بكائي الطويل على الراحلين ، تكاد تخنقني العبرات ألا تراني؟!!!

وافق الرجل على مضض وكدنا نصل إلى بائع المناديل حين لاحقنا رجل بدوي يعتلي ناقةً ، احتدمَ جدلٌ بينه وبين رفيقي ذي الوجه الغائم وصل إلى العراك بالأيدي وكانا يشيران دائما إلى جهة اليمين وإليّ فكرهت تلك الجهة وآليت أن لا أيمم شطرها مهما حصل بعد ذلك أردف البدوي صاحبي وراءه على ناقته وانطلقَ محدثا غبارا كثيفاً وحين انكشف المنظر الذي كان يحجبه أمام عيني رأيُتهُ ،البدوي ذاتهُ وهو يشغرُ ساقه ويبول مثل كلب على بقايا حائطٍ لبنايةٍ كانت قائمةً على الرصيف كُتبَ عليه (لا يبول هنا إلا كلبٌ إبن كلبٍ) ، بقيتُ وحيداً وكنت عند ذاك أعلق حقيبة على كتفي بسيور طويلة، كانت الحقيبةُ تستند إلى حقوي وكنت ممسكا بسيورها عندما أحاط بي أنفارٌ ثلاثةٌ مسلحون ببنادقَ نظيفةٍ تعرفتُ على البدوي بينهم ، البنادقُ كأنها لم تستعمل قط شممت رائحتها المميزة تلك التي علقت بأنفي حينَ سَوْقِنا إلى الحرب ، يومَ سلّمنا المأمورُ السلاحَ من صناديقَ قاتمةِ اللونِ مدهونا بشمع البرافين ذي الرائحة النفاذة، كانت بنادق الثلاثة تشيع الرائحة ذاتها ، قال أحدهم بلهجةٍ آمرةٍ:

ماذا تحمل فيها ؟ وأشار إلى الحقيبة قلت:

-فيها بضعة كتب ، العمى ، البصيرة ، الحلم، الجحيم …ال…

نظر إلي وكانت ملامحهُ غائمة أيضا لكنني أحسستُ بتجهمه وقال :

-إنظر هناك إلى تلك المكتبة فوق الشجرة

نظرتُ إلى حيث أشار كانت على الرصيف شجرة كالبتوز عتيقة ذات ساقٍ ضخم و أغصانٍ كبيرةٍ وأوراقٍ قليلةٍ كنت قد رأيتها منذ أكثر من نصف قرن في قريتي،حين ذهبت لأول مرة إلى المدرسة،بعضُ أغصانِها قد جف واستحال إلى ما يشبه الرفوف الملأى بالكتب فكرت ، كيف الوصول إليها، سمع الرجل المسلح ما فكرت به..نعم هم يسمعون ما تفكر به قال: نحنُ نصل إليها بسهولة إنظر!! ، أمطرَ رفوفَ المكتبة بوابل من الرصاص وراحت الأوراقُ والأغلفةُ والكتبُ تتطايرُ في الهواء مثل حمامٍ مفزوع وبينما هو يفعل ذلك كنت أقبض على سيور حقيبتي بقوة ، وأتفادى ما يقع من أغصانٍ جفت منذ زمن بعيد، كان قلبي يدقّ بشدة مُثاراً من فعل الرصاص بالورق.

فرغ المسلحون من القضاء على أرفف المكتبة فوق الشجرة جميعها و تركوا أسلحتهم معلقةً على جذع الشجرة بحيث كنت أراها ، كان الدخانُ لا يزال يخرجُ متلوياً من فوهاتها ثم امتطوا ناقة البدوي واتجهوا غرباً أما أنا فيممتُ شرقاً دون أن ألتفت[1].




[1] لهذه القصة نكهة كنكهة القصيدة وعالمها الحلمي الغائم الذي يشف ويوارب هو ذاته عالم القصيدة ومن هنا فهي قصيدة نثر حقيقية أكثر منها قصة وهي ذات كثافة تعبيرية لا تختلف عن الكثافة التعبيرية في الشعر الجيد وكل هذا جعل من هذه القصة وهي عندي ليست بقصة بل قصيدة نثر حقيقية .لا أدري لماذا تذكرت الكاتب الروسي تورجنيف وقصائده النثرية التي تتوكأ على السردولكن أقصودتك هذه تفوق قصائد تورجنيف إبداعاً من الناحيتين : ناحية استخدام السرد شعرياً والكثافة الشعرية في جو قصصي كأنك تطعّم شجرة تفاح بغصون سفرجل .أنت شاعر في السرد أيضاً - جمال مصطفى – ناقد وشاعر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى