سعيد نوح - حكايات صغيرة للشيطان

اللحن الذي شنف آذان الرب حتى غدا الغيم سحابا
حين غدا الغيم سحابا
حكايات صغيرة للشيطان

يحكى أن عصفورا شابا، له قدرة مذهلة على الطيران قرر ذات صباح أن يغرد للرب ذاته. بالطبع سأل كثيرا هل يمكن له الوصول إلى الرب بجناحيه الضعيفين؟، وكان الرد واحدا لم يتغير أبدا، وأبدا أيضا لم يثنه شئ عن عزمه، ومن أجل ذلك ضرب بجناحية الهواء لأعلى، بعد فسحة من الوقت كانت الغيوم تعيق الرؤية وهو يصعد، ساعة إثر ساعة والغيوم مازالت هناك .
كم من الغيوم عليّ أن أصارع حتى أرى الرب؟ بمجرد ظهور السؤال في رأسه الصغير عرف أن التعب قد بدأ. تقدم فلهذه الغيوم نهاية ستأتي علي حين غرة،
قال لنفسه وهو يدفع جناحيه بقوة تتجمع في روحه. كان ما يظهر من الدخان يضيف ضبابا إلى الضباب. راحت الغيوم السحرية التي تومض دون توقف تشغل تفكيره، لكن القوة التي استجمعها ظلت تدفعه للأعلى، حتى قرر الوقوف قليلا بعد مضي ساعات لا يعلمها إلا الرب. راح يرفرف بجناحيه في وسط غيمة من رحيق لا يعرف كونه. راحت أنفه تعمل بكد حتى تكشف سره . كانت هناك أكثر من رائحة لرحيق. حاول الإمساك بالعدد، فشل بعد الرقم سبعة. لعن عقله الصغير الذي لا يستطيع تجميع دستة من الروائح . وكأن الأمر سهل المنال. يبدو أن هذا الرحيق هو مجموعة مختلطة من أنواع الروائح الطيبة ، هكذا قال؛ ليخرج مما يشغله عما يستحق النظر، فنظر، لعل هناك بعد الغيوم يظهر شئ ما، فلم يجد جديد. كان يتأمل تنقل الغيوم وتبدل أشكالها، حين استمع إلى ترنيمة تلك الغيوم وهي تدخل ما بين ريشه لتستقر في إذنه وجسده الصغير. يالله الطيب! هذه إذن موسيقى الغيوم . عند ذلك جرب أن يطلق على تلك الترنيمات اسما، لكنه حين قرر ذلك انسحب اللحن. آه!! قالها من داخل قلبه الكبير: عليك ياصغيري أن تُصفّي نفسك؛ لتسمع صوت الأشياء وموسيقي السحاب. كان آخر ما قاله حكيم القرية بعد عجزه عن تغيير ما انتوى فعله.
في تلك اللحظة عرف أنه يجرب كلمات لوصف ما لا يُسمّى، حين تأكد له ذلك أغمض عيونه الصغيرة، فرأى دوائر ضوء تنسحب تاركة أخرى، ثم تبدأ، لتتوحد في المركز وتتسع وراء جفنيه. تراه كان الله ؟!. خطر ذلك في باله، ففتح عينيه بسرعة. لم ير شيئا هنا أو هناك بقدر ما وسعته الرؤية. لحظة ذاك فكر أن الطرق أمامه طويلة لاشك، ولا بد متعبة، لكنه درب نفسه جيدا لهذا، ولهذا بدأ من جديد. كانت الغيوم تخترق ريشه وتعيق النظر، ومع ذلك لا يستطيع لمسها، وهكذا الرب! على كل حال كان لا يمتلك يدين، ولا يعرف وظيفة لجناحيه غير الطيران.
هناك في ذلك المكان حيث من المحال لأن تميز غيمة عن غيمة، لابد أن يكون الرب، قال وهو يستمر في الطيران مازال.الغريب في الأمر أنه لم يسمع له أية أنة طوال الساعات. أبدا لم يسمع!.
وعلى طول الزمان يا سادة، لم يكن سهلا انتزاع الألعاب من أيدى الأطفال، وهذا أيضا بالنسبة لأحلام الشاب والعصافير، لكن الواقع أبدا يفرض نفسه في النهاية . لما تأكدت له قدرته علي عدم اختراق الغيمة، التي لا تنتهي إلا لتبدأ، قال في نفسه: لن أبلغ أبدا سماء الرب كما قال أبي وأعمامي وكل أقراني. يبدو أني أحمل رأس غراب كما قال حكيم العصافير، عند ذلك كاد أن يترك نفسه، ليسقط كعادة العصافير عندما تذهب للأعلى، لكنه أبقى جناحيه يرفرفان بهدوء وقال بصوت عال: إذا كنت لا أستطيع بلوغ السماء، فعلى الأقل لأغرد بالقرب من تلك الغيمة، فلعلها توصل غنائي للرب، ثم بدأ في إلقاء سيمفونية الحب. غرّد لحنه وبرع فيه. وما لم يعلمه العصفور الحالم المحب آن ذاك أن الرب كان يمضي في تلك الأنحاء، ليرعى الغيوم، وشنف مسامعه ذلك اللحن حتى غدت الغيوم في تلك اللحظة كالسحاب.
بعد أن أنهى لحنه سمع ما يشبه الهمهمة، كانت واضحة بحيث خيل له ، وربما شُبِّه له على وجه الدقة أن الهمهمة كان يتبعها تغير لون الغيوم وتحولها إلى ما يشبه النور في المشكاة . هل هذا ما حدث أم شُبِّه له. لم يتأكد له في حينه. وفي لحظة قرر الرجوع إلى الأرض. كان يكفيه وأكثر ما شُبِّه له، ولما لا وهو حكاء قدير؟!.
علم العصفور بحقيقة ما حدث من ذلك الملاك الوردي الذي اصطدم به وهو يهبط. لم يصدقه، حتى نفسه كذبته، ولعبت به وساوسه، وقال لنفسه: هذا الملاك الوردي يتقول على الرب الإله!. وحين قابله ملاك آخر ، وأكد له ما قاله الملاك الأول قال له وقد حسبه الشيطان: إذا كنت مما يسخرون من القيم ، فتجنب علي الأقل الأنحراف.
لكن حين أخبره ملاك ثالث لم يتمالك وتيقن أنه غنى للرب ذاته، وراح يحكي قصته بكل تفاصيلها ، يرددها على أشجار العشاق، وعربات ترام الفقراء، وسط الميادين قال : فهتفت فرحا للحرية، فوق المأذن والأجراس والقباب. غنى الملحمة، فركع الزرع والورد فوق اأارصفة وعلى المقاهي. ترددت الحكاية، ووصلت حتى أضرحة الموتى . عرفت بحكاية اللحن الذي شنف آذان الله، حتى غدا الغيم سحابا، رغم أن أحدا لم يعرف على وجه الدقة كيف لا يغدو الغيم سحابا ، وحين نتأكد من ذلك فلا معجزة هناك. ورغم ذلك لم يترك العصفور المجنون مكانا لم تمسه الحكاية. الغريب يا سادة في الأمر أن الرب لم يكذب ذلك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى