نورا محمد إبراهيم* - أكره تلك المرأة!.. قصّة قصيرة

تقول:
في الحارة شعبية التي نقيم بها من أحياء برزة الدمشقية، في منطقة مكتظة بالبيوت والأبنية العشوائية، كنتُ وشقيقتي داخل بيتنا إحدى شققها البائسة، لوحدنا نتذمر من ضجيج الجيران و صخب مئات الأطفال في الخارج، بينما كنا نتابع إحدى البرامج على التلفاز، قبيل آذان المغرب بقليل حسب التوقيت الصيفي لمدينة دمشق.
ففي ذلك الحين، عادت أمي إلى البيت عابسة واجمة و كأنها تتجنب الحديث عن ما يزعجها حتى لا تُظْهِرَ لنا أننا كنا محقتين، لكنها.. والحق يُقال.. من النوع الذي لا يقوى على البقاء صامتاً عن أي أمرٍ يستدعي الحديث سواءٌ كان مزعجاً أم لا، و بسؤالٍ واحد مني عن ما يزعجها أسهبت بالكلام عن امرأة من بلدنا، معروفة في الوسط الصومالي بنفاقها الشديد ورداءة أخلاقها، ناهيك عن لسانها الذي لا يتورع عن الشتم و النميمة، أو التفنن في إطلاق الشائعات و الأخبار الكاذبة عن شؤون الناس وحيواتهم الخاصة، بل قل و عن كل، و أي شيء يمر بخاطرها المنحرف.
فهي بالنسبة لي و لشقيقتي، منذ أن تشرفنا بمعرفتها عن طريق أمي، إنسانة بغيضة لا يجب التعامل معها أو اتخاذها صديقة أو حتى معرفة و لا يجوز استضافتها في أي بيت من بيوت الناس، جلّابة للمشاكل و الاضطرابات لأصحابها من خلال لسانها الآثم و بذاءتها و شخصيتها المريبة جملة تفصيلاً. فأصبح حتمياً أنها قد تغدو منبوذة في الوسط الصومالي، بل تعدّى الأمر ذلك فأصبحت تُعامل معاملة كائن منحوس، أو قل وجه نحس وسوء من قِبل الجميع، ما عدا “أمِّنا” لأنها كانت تعتقد بأنها إنسانة مظلومة لا تستحق أن يُقال عنها أنها غير صالحة.
كانت أمِّنا.. جد متعاطفة معها و مع أولادها ومشاكلها، بل و اعتبرتها صديقة و فرد من العائلة، و لم تتردد يوماً من استضافتها في بيتنا أو إجباري و شقيقتي على خدمتها و إعداد الطعام لها و مجالسة طفلها بلا مقابل رغم معرفتها بمدى الكره الذي نكنه لها أنا و شقيقتي.
لكن في ذلك اليوم الذي عادت فيه أمي إلى البيت عابسة، أدركت أنها كانت مخطئة تماماً بشأن تلك المرأة و قالت يا ليتها إستمعت إليّ وشقيقتي حين كنا نطلب منها الإبتعاد عنها قبل أن تمر من تحت رأس تلك المرأة بتجربة مؤسفة.
وللحقِّ فقد كنتُ و شقيقتي نستمع إلى ما كانت ترويه لنا أمِّنا الرؤوم عن المشكلة التي وقعت فيها بسبب تلك المرأة، مفَضَلتيْن التزام الصمت، أنا و شقيقتي و عدم التعليق بتاتاً، حتى لا نزيد من حدة إنزعاجها و هي تتحدث بحنقٍ عن ما فعلته تلك المرأة بنا جميعاً.
ففي ذلك اليوم اكتشفت أمِّنا أمراً يتعلق بتلك المرأة، و التي هكذا، بين ليلةٍ و ضُحاها، قررت أن تصبح تاجرة كالكثيرات من النسوة الصوماليات المقيمات في مدينة دمشق، حتى أنها كانت تطلب من أمي مرافقتها إلى أسواق الحميدية والصالحية والحريقة وغيرها، لشراء بعض البضائع لتتاجر بها، مستغلةً صداقتها و صدق نيتها في مساعدتها، أما أمِّنا، فلم ترفض لها ذاك الطلب لأنها لم ترفض لها طلباً يوماً.
بدأت تلك المرأة ببيع بضائعها، إما في بيتها أو بالتجوال بين بيوت الصوماليين، لكنها لم توفق إلّا ببيع القليل، لأن بضائعها كانت إما تافهة إما رديئة أوقديمة الطراز أومتوفرة في كل المحلات و الأسواق و بأسعارٍ أرخص من أسعارها، و من خُبثها لجأت إلى طريقة لئيمة لبيع بضائعها، كانت تلك الطريقة نافعة لبعض الوقت، حيث أصبحت تتجول في بيوت الصوماليات حاملةً بضائعها، و كذبة أخرى من أكاذيبها، كانت تقول، أن تلك البضائع تعود لأمي الفقيرة والمحتاجة إلى ما يسد رمق بناتها، أي أنا وشقيقتي، و كانت تحلف متباكية أن أمي في حاجةٍ ماسة إلى المال لدفع أجرة البيت و إلّا انتهى بنا الأمر مشردين!
تُعامل معاملة كائن منحوس
تُعامل معاملة كائن منحوس
مسهبة في أحاديثها عن كيف أن أمي ليس لها من يعيلهم، أو يعينها مادياً و أقوالها الكاذبة المحبوكة جيداً تلك باتت داعياً إلى الشراء منها بالنسبة لبعض النسوة اللواتي لم يعرفن من تكون أمي، والتي كانت فقط بالنسبة إليهن أمًا صومالية مُحتاجة ويجب مد يد العون إليها دون تردد، كما هي عاداتنا.
لكن أمي ليست كذلك و لم تكن كذلك يوماً، بل هي امرأة قادرة على العمل باجتهاد لتأمين لقمة العيش وتبغض فكرة الاضطرار إلى طلب المساعدة أو حتى مجرد الاستدانة، ولم تكن تمر فترة بين فينة والأخرى إلّا و بعض النسوة من الجيران يلجأن إليها لاستدانة بعض المال، فأحوالنا بالتأكيد ميسورة و الحمد لله.
حقيقة لقد كانت أمِّنا تشعر بخيبةِ أمل كبيرة في تلك المرأة، لكن الرائع في الأمر أنها استطاعت أن تضع حداً لكذبها وأساليبها الملتوية، منهية لصداقتها بعد أن تعمدت الذهاب إليها وتوبيخها في عقر دارها أمام أولادها، لكن تلك المرأة اللئيمة لم تتوانَ عن تحويل الأمر إلى ما يشبه الشجار، بما أثارته من صخبٍ وجلبة، شأن عادتها الخبيثة، التي أبدعت في سبيلها إفتعال حالة هستيرية من التفجع، تضاهي تراجيديا المسارح، حين إنفجرت ببكاءٍ مبالغ فيه ونواحٍ شديد ومدهش، راثية نفسها “المسكينة” ومتشكيّة من معاناتها.. الكاذبة بالطبع، من أعراض ارتفاع ضغط الدم و السكر، لاطمة نفسها كأنها ثكلى تماماً، دافعة بجيرانها سيئي الحظ للخروجِ وحضّها على الكف عن ما تسببه من ضجيج مخيف، ذلك أن مالك العقار نفسه كان قد حذَّرها مراراً مما تقوم به دائماً، كلما أتت إحدى النساء لتوبيخها على أعمالها السيئة التي لا تستطيع أن تمتنع عن ارتكابها.


( كاتبة قاصّة من الصومال، مقيمة في دمشق)
أعلى