السيد حافظ - قبل بعد أن تغيب الذاكرة

قالت السيدة ذات العيون الزرقاء ونحن نركب المصعد

يا أستاذ: مش تتعرف علينا وتيجي تزورنا أنت والمدام إحنا في غربة احنا في الكويت مش في مصر قلت لها :.. لا..

اندهشت.. قلت أنت جميلة جداً يا سيدتي وأنا لو جئت لزيارتكم سأحبك وستكون بيننا علاقة .. أنت زوجة رجل صديق وأنا لا احب عمل علاقات مع جاراتي الحسناوات.. سميه غباء .. سميه ما شئت لكن تعلمنا في حارتنا في الإسكندرية لا تحب ولا تصاحب بنت تسكن في بيتك ولا جارتك سامحيني.. وركبت سيارتي وتركتها.

قالت المرأة الكويتية الجميلة.. جنونك آثاره في كل ركن في الكويت .. لو كنا في بلد حر ومتحضر لكتبت كتاباً عن مغامراتك في كل الأمكنة .. يا بعد عمرى.. نزلت من سيارتي..

فتحت الدكان .. مليء بالغبار والأوراق والأحبار .. انقطعت عن العالم

العالم وأنا

أنا والعالم

العالم أنا

أنا العالم

العالم

أنا

كل شيء أصبح ضد كل شيء.. لم أفكر إلا في كيفية الوصول إلى البيت .. سيارتي العتيقة تشكو.. منذ عشرين عاماً وهي تعمل دون كلل أو ملل .. فجأة أعلنت أنها كبرت وتصدر أصواتاً وتشكو وتئن .. والميكانيكي يقول بعها يا أستاذ وأنا لا أستطيع أن أتخلى عنها .. أحببت فيها كل شيء, سافرت معي ثلاثة بلاد بل أربعة.. الكويت الأردن السعودية مصر تعرف عني أسراري وأخباري ما لم يعرفه أولادي.

تعرف أحزاني وأفراحي .. رقصت معي وغنت يوم أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل .. قابلت واستقبلت أهم المبدعين العرب في المسرح والسينما والتليفزيون ونجوم صحافة ونجوم قلبي أيضاً ..

ياه كبرت السيارة وأنت أيضا كبرت .. كلانا كبر .. شرطي المرور لا يحترم عجزها .. وقوانين العالم لا تعرف كم هي مهمة بالنسبة لى.. وكم هى قابلت وعرفت وصادفت وحضرت حورات ومساجلات ومحاورات..

سيارتي تئن في كل يوم .. والناس تطلب مني تغييرها .. أعرف أن قله الحيلة لا تدفعني للتغير لكن لو هناك حيلة كنت سأقوم بتغيير الموتور وأشتري واحدة جديدة ليصبح عندي اثنتان .

"جاء في الأنباء أن قبور الشهداء تتحرك في غزة" محمود درويش .

اقتحم جنود إسرائيل غزة .. غزة هي وطني .. يا وطن الجراح الأكبر كم مرة احتليت وكم مرة قتلت وكما مرة نهضت .

صوت الشيخ إمام في السيارة .. القديمة شريط لصوت فيروز وعبد الحليم حافظ .. جلست على مكتبي في الدكان أفتش في أوراقي القديمة .. حنين إلى القديم .. وجدت رسالة من أحمد جمعة المسرحي والإذاعي والصحفي والمبدع البحريني بتاريخ 12/5/1987م .

السيد:

تحياتي لك وللأسرة ولشعب مصر وللأمة العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء .

(أحمد جمعة يملك قلب طفل وعشق عطيل وتمرد هاملت) مالك يا سيد .. ما هذا الانقطاع الذي لا معنى له أبداً ولا يفسر سوى أنك اصبحت من أصحاب الأرانب (يقصد الملايين)

تحسست جيبي .. به فقط خمسون جنيها وظرف به رسالة من البنك تطالبني بمديونيتي لقد استلمت رسائل رسمية من رؤيا .. شكراً على الثقة منك فأنت دائماً لا تنساني .

أبداً ولكن بحاجة إلى خط يديك لأعرف من خلاله مزاجك وأين تعيش وفي أي قارة من الخريطة أنت موجود .. اسمع يا سيد وأقسم لك إذا لم ترد بخط يدك هذه المرة فسوف أقطع تذكرة بدون مرجع وأكون عندك .. فابحث لي عن مأوى و إلا أكتب لي و بسرعة حتى لا أهبط عليك كالعاشقة الولهانة . هل سمعت ؟ يا سيد كل أعذارك غير مقبولة لأنني فعلاً أشتاق إليك يا أخي ولولا رسالة العتاب هذه لدخلت في تفاصيل كثيرة .. وأخبار كثيرة ولكن سمعني صوتك واجعلني أصدق أنك حياً يرزق .

(أنا حي .. ميت .. يا أخي سؤالك مضى عليه ً خمسة عشر عاماً وأنا لا أعرف هل حياً أم ميتا .. أقاوم الفساد في كل الأمكنة ولا أستطيع .. أصبحت شيخاً وسيارتي هي أيضاً أصبحت عجوزا تئن في الطريق العام) لقد فكرت واتفقت معك على أننا نشكل جبهة عريضة من الكتاب المجانين .. لو كنت مازالت في الكويت لهان الأمر وجعلناك أمينا عاما لإتحاد الكتاب المجانين ولكنك في أرض الكنانة .. فالأمر مختلف ..( من الكويت إلى مصر يا قلبي لا تحزن.. هناك دخلت في ألف معركة مع أشباه الأدباء وأشباه الصحفيين وأشباه المبدعين .. وهنا دخلت في نفس المعارك مع نفس الأشباه ولكن بأسماء أخرى .. قدري أنني أحارب الأشباه .. وهم في صراعهم أقوى من السلطات والحكومات) .

لن أطيل عليك ولكنني أحذرك يا سيد حافظ وأنت تعرف ما يعني تحذيري هل فهمت ؟

تحياتي مرة أخرى إلى جميع كلاب العالم بما فيهم حضرتك

أحمد جمعة

قلت لأحمد جمعة في المنامة في عام 1983 .. المخلص لوطنه هو كلب وفي لصاحب مجهول هو الوطن .. كلب يعشق شوارع المدينة ويطارد اللصوص ويحفظ أسرار المدن ويحرس المنشأة ويفتش عن القتلة واللصوص والفجرة .

الأنظمة تعاملنا ككلاب .. كنا يومها في المنامة نجلس في مقهى وأنا أشرب الشيشة وهو يضحك .. الآن تذكر .. إننا كلاب ..

قال الشيخ تقي الدين المقريزي في كتاب المخطوطات في وصف مصر:

(إن كلاب مصر غير كلاب الدنيا .. كلابهم صاحبت قططهم وقططهم صاحبت فئرانهم .. وكلابهم لا تنبح على الغريب) .

أذكر يومها . . يوم قلت له أننا كلاب الوطن أي حراسه والسلطة جعلتنا هكذا (كلاب) . . يومها كنت في المنامة .. تذكرت هروبي من الكويت إلى المنامة بعد أزمة نفسية بعد أن فزت بجائزة أفضل مؤلف لمسرح الطفل عام 1983 ومعي طارق عثمان أفضل مؤلف للتليفزيون وحمدي فريد أفضل مخرج وعبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله أفضل نجمان وفلان وفلان وعلان ومحمد المنصور وغيرهم .. كنا نحن الثلاثة أجانب أي غير خليجيين .. (أنا وحمدي وطارق).

نعم بتقول إيه أجنبي !..

أيوه الأجنبي هو غير الخليجي .. والعربي كمان أجنبي زى الخواجة أبو عيون زرقة

سألتني أمس يا ولد وقلت لي لماذا الدبابات الأمريكية تدوس العراقيين في بغداد والدبابات البريطانية تدوس العراقيين الشيعة في الجنوب والدبابات الإسرائيلية تدوس الفلسطينيين في فلسطين والدبابات الروسية تدوس المسلمين في الشيشان .. والعربي المسيحي في أوربا يهان لأنه عربي .. لماذا كل هذا ؟

لأنه أجنبي ونحن في الوطن العربي يابني عندما تغادر بلدك إلى بلد عربي آخر تعامل على أنك أجنبي.

قال المعلم صاحب المقهى : دا احنا شعوب أونطه.

كانت الجوائز التي توزع علينا في حفل التكريم في جمعية الفنانين الكويتيين تبدأ بسيارة كاديلاك و غرفة نوم فاخرة ، وأثاث منزلي وسيارة تويوتا .. طقم فضة و طقم ذهب ... و..و..

بدأ الحفل وتوزيع الجوائز, وزعت السيارات على الفنانين الكويتيين ثم غرف النوم على نجوم الصف الثاني ثم ..... ثم ....

أفضل مؤلف مسرحي للأطفال في الكويت عام 1983 ذهبت فجأة وجدت ظرفاً أيضاً وعليه قلم (طقم أقلام)...

أفضل مخرج تلفزيوني حمدي فريد .. نفس الشئ طارق عثمان أفضل سينارست .. نفس الشيء خرجنا ثلاثتنا إلى الشارع في لهفة لنفتح الظرف ونرى الشيك وجدنا بدل الشيك تذاكر لسينما في سينما السالمية لمشاهدة فيلم أجنبي وطقم أقلام بخمسة دنانير والطقم ناقص قلمين.

يعني قلم واحد .

يعني ألم واحد.

وتقولي ليه العراقيين والفلسطينيين خانوا بعض وإحنا خنا بعض من زمان.

يابني أنت بتكتب قصة مش كده الطريقة.

دخلت إلى مكتب الشاعر خليفة الوقيان في اليوم الثاني وصحت في وجهه يا دكتور خليفة أنا أخذت جائزة أفضل مؤلف مسرحي للأطفال تكون جائزتي من الكويت قلم حبر باثنين دينار أين القومية العربية ؟.. لماذا لا يعطونا عربية ؟. أين العروبة .؟. أنت قومي عربي .. لماذا تتركون الحالة هكذا ؟؟!

قال اهدأ يا أبو محمد واجلس واشرب شاي ..

خليفة الوقيان الرائع الانسان الشاعر الحكيم ضحك وقال :

ألم لتضرب به نفسك لأنك صدقت أن الوعي العربي حاضر .. الوعي غائب . . وتذكرة سينما تشوف فيها خيبة الأمة في فيلم طويل .

يا عم يالي بتكنس الدكان العفارة ملت الطريق والورق طار شمال ويمين.

سيارتي معطلة أمام الدكان

جاء بالورقة التي طارت

ورقة بتاريخ 23/8/1986

خطاب من جامعة محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس.

العزيز الوفي (رأيت الوفي .. صفة من صفات الكلب).

وبعد:

لقد تعودنا على الكتابة ، على الأسئلة ، على الغربة ونحن نقرأ الخطابات المتبادلة ، إنها نبض العشق الذي ينبت رغم بعد المسافات برغم الأقلام الطفيلية التي تنبت في طريقنا ، رغم الداء والأعداء .. عندما وصلتني رسالتك الأخيرة شعرت ببعض الخجل لأني مقصر في الرد عليك.. لكن الحقيقة عكس ذلك .. أني مدمن على قسط زمن العشق والصداقة في كل لحظة . . في كل فرصة .. واتابع أخبارك واتابعك والكتابات حولك ، صراعك النظيف من أجل هذا الحلم الذي يسكنا ، هم الكتابة والتحدي والتجاوز .. في الندوة الأخيرة التي نظمها المسرح العربي بالكويت كنت سأقوم برفقة الأخ عبد الكريم برشيد .. هيأت المداخلات لكن المنظمين طلبوا منا أنا وعبد الكريم تحمل نفقات السفر. إنه عبء كبير علينا هذا ما جعلنا نعدل عن القدوم ورؤيتك فأنت في الكويت.

حضن دافىء لكل المبدعين العرب تقاربهم من بعضهم.

أخبرتك أن عبد الكريم برشيد سكن على بعد خسمين كيلو متر من مدينة مكناس لقد سهل القرب الاتصال بيننا وتكثيف الجهود ، إننا نجتمع أسبوعياً كل أربعاء وخميس .. لقد عرضت مسرحيته الأخيرة في مدينتي الرباط والدار البيضاء إنها مسرحية ابن الرومي في مدن الصفيح سنزور بها فرنسا والعراق وربما مصر.

أما سوريا فقد ألغيت المهرجان والزيارات لأسباب سياسية خارجة عن نطاق الإبداع والمبدعين.

هل يمكن أن ترسل لي المداخلات التي تمت في اليوبيل الفضي للمسرح العربي بالكويت وترسلها لي .. أتعبتك معي.

قلت لي أنك ستغادر الكويت قريباً وتفكر في العودة للوطن الأم .. متى ؟

كتبت دراسة عن نعمان عاشور لمجلة عالم الفكر .. اسأل لي عنها ؟

أتمنى أنك تكون قد تجاوزت الأزمة الصحية . أنا قلق عليك

أخوك

ابن زيدان

عبد الرحمن بن زيدان

صاح الكناس امام باب الدكان .. يا حاج يا حاج الحق العربية بتاعتك بتمشي لوحدها والموتور داير ومحدش راكبها هي فيها عفريت.

قلت لا هي تخبرنى أن ميعاد الكتابة انتهى يا غبي



تمت القاهرة 2003


السيد حافظ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى