عبدالله عبدالإله باسلامه - تلوث .

غطاء محكم يحجب عني الضوء والضوضاء، فيغمرني شعور بالرضى، حتى يجلجل صوت الحاجب: "محكمة".

تزعجني سخونة القاعة، المشحونة بمكابدة هموم الناس.
ترقب، ونفاد صبر المتخاصمين خلف أقنعة التحدي، وأصباغ التجلد، والمكابرة.

تزيدني بلةً تلك الرطوبة التي تحقنها الأنفاس الساخنة، والأجساد المتعرقة حين تكتظ بهم القاعة، ممزوجة بروائح أجساد متهمين لم يعرفوا الاغتسال منذ وقت طويل، مع روائح تبغ تفوح من أوراق، وأفواه المحامين، لا تقل كراهة عن رائحة فم القاضي، وأمين سر المحكمة الذي يكدس الملفات أمامه على الطاولة، ويعلن بصوت مرتفع : "بسم الله الرحمن الرحيم، نفتتح جلسة اليوم الخاصة بإصدار الأحكام، ونبدأ بالقضية رقم …"

وعدت نفسي بتجاهل ما يدور حولي، فيكفي ما أعانيه، حتى أحافظ على صحتي التي بدأت تتاثر لدرجة الاختناق.
لكن ما لهذا الكهل يدخل بدون محام؟! هاهو يتقدم مكبل اليدين والرجلين، يكاد يختفي في ثوبه الأغبر، وسترة مضغت الأيام لونها فتجانست مع شحوب وجهه، وضمور عوده الذي يسنده إلى الجندي المرافق له، ينظر حوله ببلاهه فاغراً فاه الخالي من الأسنان، كأنه غير معني بالأمر، حتى والقاضي ينطق بحكم القصاص عليه بعد عشرين عاما قضاها في السجن؛ لم يبد على الرجل التأثر، كما بدا على الجندي الذي واساه وهو يستدير به مغادراً :
- نهاية مؤسفة!
رد الرجل وهو يطأطئ برأسه:
- ماذا قلت يابني؟ لم أسمع شيئا.

عاودني الاختناق.
لمت نفسي وعزمت على التجاهل، لكن شدتني رائحة العطر القوية - والغريبة - لمعرفة مصدرها الرجل الذي وصل متأخرا مرتديا ملابس فاخرة، وجلس في الصف الاول، يبادل القاضي ابتسامة مائلة.
"القضية رقم…'

يدخل المتهم بخطوات قصيرة متراخية، بدا مرهقا معفر السحنة، كأنه قضى ليلته في نقل أكياس الأسمنت من شاحنة إلى أخرى، بادره القاضي :
- وأخيرا أقررت .
- قل تعبت !
اختفت ابتسامة القاضي وهو يحدجه بغضب
-ومن الذي أتعبك ؟ هل تقصد أننا....
- معاذ الله ياسيادة القاضي أنا مقر ومعترف أنني المسوول، ومستعد لدفع الغرامة، أريد فقط العودة إلى بيتي وعملي.
زادت ابتسامة صاحب الرائحة ميلاً .

" القضية رقم ....."

بدخول المتهمة أحسست بحرارة غريبة في يد القاضي، سببت لي فوق معاناتي تقلصاً في بطني، زادتها ارتعاشه شفتيه، وهو ينطق إسمها. نظراته الذئبية تلتهم قوامها، وتلثم عينيها اللوزيتين المبللتين بالدموع، فيما الإدعاء يتلو مسودة خلاصة الحكم، نزع القاضي عينيه عنها مخاطبا الحاضرين بوقار أن صغر سن الفتاة، ووضعها الاجتماعي، يشفعان لها تقديم التماس عبر محاميها الذي هب وقد تهلل وجهه يهتف: "تحيا العدالة… يحيا القاضي"ردد الحاضرون الهتاف معه.

فاجأني شلل أصاب رأسي، وقطع أنفاسي، ومنع حركتي، رفعني القاضي بمحاذاة عينيه يستشف الأمر، رجني بقوة بضع مرات، حك رأسي في الطاولة دون جدوى؛ لأجد نفسي أطير في الهواء بطول القاعة، وأرتطم بالجدار أسفل العبارة التي تزينه ((وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) .

عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن / ذمار .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى