صفاء عبد المنعم - على الجانب الآخر من الدنيا

أعرف أن أمى لا تحب الصور أو اللوحات أو أى تمثال صغير أشتريه واضعه أمامى على المكتب وأنا أذاكر دروسى، وإذا رأته وأنا فى المدرسة أو خارج البيت، تقوم بوضعه فى سلة المهملات وهى تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وعندما أسأل عن تماثيلى الصغيرة ولوحاتى الجميلة، تردد بقسوة وعنف وغضب شديد : أنت عايزة الملايكة تهرب من البيت، أنت عايزة الشياطين تسكن البيت وتعيش معنا .
كانت تكره طريقتى فى فهم الأشياء، وأنا لى طريقة خاصة فى الحياة، وتخصنى وحدى، عندما أهم بالمذاكرة من الساعة الخامسة مساء وحتى الساعة الواحدة ليلا، كنت أقوم بوضع الراديو الترانزيستور الصغير أمامى على المكتب، وضبطه بدقه على إذاعة أم كلثوم، وأخفض الصوت كثيرا بحيث لا يسمعه أحدا سواى، وأظلم الحجرة تماما، وأقوم بأضاءة أباجورة المكتب أمامى، وأجعل ضوءها مسلطا على الكتاب الذى أقرأ فيه .
تدخل أمى الحجرة، تجد كل شىء هادئا وصامتا ومظلما، عدا بؤرة ضوء صغيرة على المكتب، وكتاب مفتوح، وصوت ضعيف يغنى، تظل واقفة للحظات، هى لحظات قليلة ثم تدير ظهرها خارجة، وقبل أن تدلف خارجة من باب الحجرة إلى الصالة، اسمعها تردد جملة واحدة لا تقول غيرها : بنات آخر زمن . ثم تسير فى صمت، وتتركنى أجلس وحيدة وهى تجلس فى الصالة مع أخواتى الصغار وهم يلعبون، واسمعها بدقة وهى تقول لهم بصوت خفيض يشبه الوشوشة : وطوا صوتكم شوية، أختكم بتذاكر .
عندما تقول أمى هذه الجملة أطمأن كثيرا، وأخرج من درج المكتب كشكولا جميلا لونه أحمر، وصفحاته مصقولة ناصعة البياض، وأقوم بملىء القلم الحبر من دواية الحبر، وأشرع فى كتابة بعض الأشعار الجديدة، وكذلك أدون أغنية عبد الحليم حافظ والتى غناها فى شم النسيم، أكتبها بخط جميل منمق، وأرسم على جنبات الصفحة بعض القلوب والزهور التى تتقاطع مع سهم صغير يخترقها من المنتصف، وعندما أطمأن أننى كتبت الأغنية، والقصيدة الجديدة، ورسمت القلوب والزهور والأسهم المتقاطعة، وأول حرف من اسمى واسمه باللغة الأنجليزية، أعود وأغلق الدرج بالمفتاح على كنزى الصغير، الكشكول السرى حتى لا يراه أحد أخوتى فيخبر أمى بما أفعل .
فى هذه اللحظة، أعود إلى المذاكرة بروح جديدة ومختلفة .
ومرت الأيام سريعا، وفى ليلة من ليال شهر أغسطس الحار من عام 99 بعد وفاة زوجى بعدة شهور قليلة، ذهبت إلى زيارة صديقتى الكاتبة نعمات البحيرى والتى تقطن بمدينة الشروق والتى تقع على الجانب الآخر من الدنيا، ورأيت بيتها الصغير المزدحم باللوحات والرسومات والصور، والتماثيل الصغيرة، وتكتب قصصا جميلة عن حكايات المرأة الوحيدة، وأنها مبتهجة، وبيتها تسكنه الملائكة معها، أخذت أحدثها بصوت خفيض وهادىء بشويش : هى التماثيل دى مش حرام .
تضحك بملىء فيها وهى تربت على ظهرى برفق وحنو : ياحبيبتى التماثيل دى للزينة فن هو أحنا بنعبدها، وبنسجد لها .
تذكرت على الفور صرخة أمى وغضبها الجامح وهى مذعورة، وتلقى بلوحاتى وتماثيلى الصغيرة فى سلة المهملات، لو كانت أمى قرأت كتابا واحدا، ماكانت حرمتنى طويلا من لوحاتى الجميلة، ورسوماتى المفضلة، وتماثيلى التى لا أعبدها، بل أحبها لأنها فنا جميلا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى