حاميد اليوسفي - كوفية بدون عُقال* ، وصورة للذكرى على هامش التضامن مع الشعب الفلسطيني

يعود تاريخ الصورة إلى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي ، وهي مأخوذة من داخل البيت الذي كنت أسكنه بعد العودة من السوق ، بآلة تصوير تعود لملكية الطايع ميلود . وهو من الأصدقاء القلائل الذين كانوا يتوفرون على آلة تصوير بالمنطقة في هذه الحقبة .
وما يهم فيها هو الكوفية الفلسطينية ، الذي كنت أسميها مع نفسي ب(الشال) . وهي عبارة عن منديل ألف سكان الشرق خاصة في القرى والأرياف أن يضعوه فوق رؤوسهم ، ويشدونه بعُقال حتى لا تتلاعب به الريح ، ويسقط أو يطير من فوق الرأس . وقد نافسه في ذلك الطربوش الذي كان يرتديه سكان الحواضر وكاد يقضي عليه .
وتحولت الكوفية مع الثورة الفلسطينية الحديثة في بداية السبعينات إلى رمز وطني ، حرصت بعض قيادات فصائل منظمة التحرير على الظهور بالكوفية في المظاهرات وأمام الإعلام الغربي والعربي . ومع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ستكتسب شهرة أكبر ، وهو يخطب في منبر الأمم المتحدة ويتحدث عن جدلية العلاقة بين البندقية وغصن الزيتون ، ويستقبل أو يُستقبل من طرف رؤساء وملوك ينتمون إلى الشرق أو الغرب والكوفية لا تفارقه شأنها في ذلك شأن الزي العسكري الذي يوحي بالمقاومة .
ثم ستتطور الكوفية مع اليسار العالمي فيما بعد إلى رمز من رموز التضامن مع الشعب الفلسطيني ، فأصبحت توضع فوق الكتفين ، وينزل جزء طويل منها تحت العنق وفوق الظهر . أما بالنسبة للنساء أو الفتيات فأظن أن أول من ظهرت لها صور في الصحافة العالمية ، وهي ترتدي الكوفية ، ليلى خالد بعد اختطافها لطائرتين ، وهي بالمناسبة تنتمي للجبهة الشعبية .
كما اشتهر طلبة الجامعات في المغرب باستعمال الكوفية في كل الأنشطة تقريبا التي لها علاقة بالتضامن مع القضية الفلسطينية . وكان البعض يقتنيها من سفارة دولة فلسطين في مدينة الرباط ، أو من بعض مكاتب التعاضديات التابعة لمنظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب . وكانت تخصص مداخيلها لدعم للقضية الفلسطينية ..
وقد اقتنيت واحدة عندما كنت أدرس في الجامعة بظهر المهراز بفاس ، لكني لم أستطع الحفاظ عليها ، ولا أتذكر من استلفها مني ، ولم يعدها إلي . وقد تصادف ذلك مع انتقالي إلى العمل بمنطقة بومالن دادس . وسأنتظر حتى منتصف الثمانينات لشراء قطعة جديدة من المعرض الذي كان يُقام بجنان الحارثي ، وتُخصص فيه بعض الخيام لمنتوجات الصناعة التقليدية الفلسطينية . ويُروّج فيها الشباب الفلسطيني الذي يدرس في المغرب بعض المنتوجات ذات الطابع الثقافي أو السياسي . وقد زرته في إحدى العطل ، واقتنيت منه كوفية فلسطينية وبعض الأشرطة الصوتية لأغاني العاشقين وأحمد قعبور وقصائد لمحمود درويش ، وديوان يعيش أهل بلدي للشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم ، وديوان آخر لعبد الوهاب البياتي لا أتذكر عنوانه ، بالإضافة لثلاث نسخ من حامل المفاتيح مع شارة لأحد فصائل اليسار الفلسطيني ...
وسأفهم فيما بعد بأن لون الطرز في الكوفية أصبحت له هو الآخر دلالة سياسية . فالطرز الأسود يفضله من يحب التضامن مع منظمة فتح . والطرز الأحمر يفضله من يختار التضامن مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية .
ألفت في بعض الأحيان ، وأنا بمنطقة بومالن دادس أن أرتدي الكوفية الفلسطينية ، ولكن على الطريقة المغربية ، فحولتها إلى عصابة أشد بها رأسي كما يفعل بعض سكان الأرياف .
وتذكرت بالمناسبة أني لم أر في المنطقة أكثر من نسختين أو ثلاث واحدة في بيت المسافري والأخرى عند الطايع . وسيعملان على ارتداء الكوفية بنفس الطريقة المغربية التي أشرت إليها .
بقيت ملاحظة أخيرة أن ارتداء الكوفية الفلسطينية في منطقة نائية من المغرب العميق والمنسي في تلك الحقبة كانت مجازفة ، لم نكن نُقدر خطورتها آنذاك ، ربما بسبب حداثة تخرجنا من الجامعة ، واستمرار التأثيرات السياسية والثقافية للساحة الطلابية .
في النصف الثاني من الثمانينات أظن 1988 حدث ما لم يكن في الحسبان عندما استضافت الجزائر مؤتمرا لمنظمة التحرير ، وفرضت عن طريق بعض فصائل اليسار الفلسطيني حضور قيادة البوليزاريو كضيف في المؤتمر . لم يجد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حيلة ، يتخلص بها من هذا الإحراج ، وهو في حاجة إلى عقد المؤتمر ، واتخاذ قرارات ستخطط لدعم الشكل الجديد من أشكال الاحتجاج والمقاومة الفلسطينية (الانتفاضة الأولى 1987) ، بعد خروج الجناحين العسكري والسياسي للمنظمة من لبنان سنة 1982 ودخول القضية في نفق مظلم . ومن أهم هذه القرارات استقلال الدولة الفلسطينية من جانب واحد . وقد احتج الملك الراحل الحسن الثاني على هذه الخطوة التي أقدمت عليها منظمة التحرير الفلسطينية والتي تمس بوحدة المغرب الترابية ، خاصة أن المغرب بملكه وشعبه وقواه السياسية المناصرة للقضية الفلسطينية كان من أكبر المتحمسين والمدافعين عن الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط 1974 . لا زلت أتذكر الكلمة البذيئة التي وردت في الخطاب الملكي . ولم تكد تمر شهور قليلة حتى أصلح ياسر عرفات علاقته بالمغرب وأتذكر صورة نقلتها وسائل الإعلام آنذاك للزعيم ياسر عرفات ، وهو يقبل رأس الحسن الثاني ، ويعيد المياه إلى مجاريها .
عندما انتقلت من بومالن إلى سيدي اسماعيل حافظت على هذه الكوفية حتى اهترأت وتمزقت . ورغم أني شاركت في العديد من المسيرات الوطنية بالرباط تضامنا مع الشعب الفلسطيني فإني لم أحظ بفرصة لاقتناء كوفية جديدة .
وعندما بحثت مع الشيخ غوغل في الأنترنيت ، تعرفت على العديد من المعطيات التي ترتبط بصناعة الكوفية وكيف أن مواطنا فلسطينيا أنشأ معملا في الأراضي المحتلة ، ينتج حوالي 700 كوفية في اليوم ، ثم تقلص العدد إلى 300 قطعة في الأسبوع .
وقد ازدهر إنتاج الكوفية أيضا في الدول المجاورة خاصة سوريا والأردن .
كما دخلت شركات غربية للباس على الخط ، وأصبحت تنتج الآلاف من الوحدات . وأغرب ما اكتشفته هو ظهور شركة ألبسة أميركية ، تنتج الكوفية الفلسطينية التي ارتداها في المسيرات شباب ينتمي لليسار اليهودي يدرس بالجامعات الأمريكية احتجاجا على الجرائم الصهيونية ، وسميت بكوفية الأولاد . وبعد ذلك ضغط اليهود المؤيدون لدولة إسرائيل في سنة 2007 على هذه الشركات فتخلت عن إنتاج الكوفية .
ومنذ سنة 2000 دخلت شركات النسيج الصيني على الخط ، وأصبحت تنتج الملايين من الوحدات وبثمن جد مناسب ...


المعجم :
ـ العقال : هو الدائرة المفتولة من خيوط سوداء تشد الكوفية فوق الرأس
مراكش 17 ماي 2021



1659179630250.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى