الون حلو - عزبة دجاني.. ترجمة: تغريد جهشان *

هكذا تنبأ الفتى صالح دجاني في أواخر القرن التاسع عشر "بلغة هذيانه التي وقعت بأسر أوهام روحه المشتتة -في الحرب العظمى سيثور اليهود وسيدمرون العزبة وسيبنون على أراضيها ثلاثة أبراج عالية رؤوسها بالسماء، الأول شكله مربع، والثاني مثلث، والبرج الثالث بشكلٍ دائرة.هذه الأبراج مصنوعة جدرانها بكاملها من شبابيك الزجاج الذي تربطه حواصر بيضاء ناصعه .
وأولادهم بلونهم الفاتح وشعرهم الذهبي وامهاتهم الكاشفات جلدهن يتمشين بكبرياء بين هذه الأبراج ويدوسون بخطى اقدامهم البيارة اليابسة والحقول المقتلعة والبساتين المدمرة، لا يعلمون أي امر عن صالح وعفيفة وأمينة ومصطفى الدجاني رحمه الله، الذين سبقوهم في احدى سنوات التاريخ البعيدة وعاشوا هنا وأحبوا هنا وكان قدرهم هنا". ص178 من كتاب عزبة دجاني.
الون حلو مؤلف الكتاب من مواليد مدينة يافا سنة 1972 لوالدين هاجرا من سوريا بسنوات الستين يعمل مستشارًا قانونيًا لإحدى الشركات التكنولوجية ويقيم حاليًا في مدينة هرتسليا.
تبدأ أحداث القصة سنة 1895 على أرض عزبة دجاني التي يمتلكها مصطفى دجاني والتي تعرف اليوم بمنطقة عزرائيلي بمركز مدينة تل أبيب على اسم الشخص الذي يمتلك الأبراج الثلاثة التي اقيمت على ارض عزبة دجاني التي كانت تحيطها البساتين والبيارات والأراضي الزراعية الخصبة في القرن التاسع عشر.
مصطفى دجاني، أبو صالح، تاجر يافاوي من أغنياء يافا، يتجول بين البلدان تارة لتصدير البضائع وتارة لاستيراد بضائع اخرى، تاركًا وراءه امرأته عفيفة دجاني والخادمة أمينة وابنه صالح الذي يعاني من الاضطرابات النفسية واختلال العقل وهلوسات تملك عليه تفكيره حول المصائب الكبيرة التي ستحل بأبناء شعبه.
"ففي صباح أحد الأيام المشمسة هربت من غرفتي واعتليت دراجتي ووصلت الى يافا، وقلبي يعتصر أسى وأنا أسرع وأسرع، فسوف تندلع الحرب بين الأعداء، وسيهزم العرب هزيمة نكراء، مخزية، وفي خيالي صورة ميناء يافا يعج بالقوارب والأولاد والأطفال بعضهم على بعض، يحاولون الهرب من نيران اليهود التي تمطر عليهم القنابل والرياح الحارقة ويتجمع حولي جمهور من الفضوليين وأنا اشير الى طرف مدينة يافا شمالاً، موقع قرانا وبساتيننا الجميلة وبياراتنا ورمل البحر الجميل وأقول لهم، هناك سوف يبنون مدينتهم وسوف يطردونا بحيث لن يبقى عربي بينهم. أما المارة فإنهم يظنون أنني مهرج ويضحكون على أقوالي الحادة..." صفحة 217.
في هذه الفترة بالذات ومع بداية الهجرة اليهودية الأولى لأرض فلسطين يصل الى البلاد حاييم مرغليوت كليفرسكي بهدف "انقاذ" الأراضي من العرب لبناء مستوطنات للمستعمرين اليهود كما يدعون في الكتاب، وترافق كليفرسكي امراته طبيبة الأسنان التي تعاني كما يبدو من مشاكل جنسية شتى، كليفرسكي هذا يقوم بتدوين يومياته تمامًا كما يفعل الفتى صالح دجاني، هذه اليوميات مجتمعة تؤلف كتاب عزبة دجاني، حيث تشاء الأقدار بأن يلتقي كليفرسكي بصالح وعفيفة دجاني في حارة الصرافين بسوق يافا عند زيارة لهما للطبيب البيطار لمعالجة صالح وفي لحظة لقاء خاطفة يتعلق الفتى بكليفركسي فتقوم عفيفة بإرسال رسالة لكليفرسكي للقاء ابنها ولرعايته والحفاظ على صحته لانقاذه من حالته فتدعوه لزيارة الفتى في عزبة دجاني فيعجب كليفرسكي بالأرض والبيارة والتربة ويبدأ حياكة مؤامرة للاستيلاء عليها. ويتعلق صالح بشكل مرضي بكليفرسكي فيدعوه الملاك الصالح عند معرفته الا ان هذه الصفة تتغير بشكل مستمر مرتبطة بتصرفات هذا الملاك ليصبح الملاك الشرير أو الملاك المدمر والى غير ذلك من الصفات. هذا الملاك يحاول بواسطة افعال واقوال خداع جميلة تقوية اواصر الصداقة مع صالح، الا ان هذه الصداقة تتعدى ذلك بكثير لتصل الى الأم عفيفة التي لا تتورع عن ابداء حبها لهذا الغريب ليصبح فيما بعد عشيقها في حياة زوجها وبعد وفاته.
ويعلم الفتى بهذه العلاقة فتثور بنفسه المشاعر المتناقضة ويزداد اختلال عقله واضطرابه اذ يظهر له والده كالأرواح مخبرًا اياه ان الملاك هو الذي قتله ويحثه على اخذ ثأره، ويقوم صالح بكتابة قصة بأسماء مختلفة تدور حول مقتل زوج على يد عشيق الزوجة، تمامًا كما فعل هاملت عندما غير مجريات رواية تم تمثيلها امام زوج والدته الملك كلوديوس الذي قتل والده، ليتأكد من كلام والده الذي ظهر له وابلغه عن مقتله الا ان صالح لا يقوم بقتل الملاك وانما يتوجه الى العاملين في البيارة مستنجدًا ولكنهم يرفضون السماع لحديثه بالرغم من تحذيرهم بأن هذا الملاك سوف يطردهم من الأرض وسوف يدمر بيوتهم البائسة، ويطلبون منه ان لا يشغلهم بهلوساته ووسواسه خاصة ان الله يحميهم ويحافظ عليهم واذا لم يحمهم فسوف يفرشون الأرض مصلين لله دون انقطاع بصوم كامل..
الملاك المخرب يسير بخطى حثيثة لتحقيق مآربه، فعفيفة تطلب مساعدته لإنقاذ البيارة ومراقبة الفلاحين، ولكن الثمن الذي عليها ان تدفعه غاليًا، اذ ان الملاك يطلب مقابل حبه ومساعدته كوشان الأرض والا سيقطع علاقته بعفيفة ويتركها لرحمة العمال والفلاحين الذين يرفضون اطاعة اوامرها، وكذلك سوف يقطع علاقته بصالح ذلك الفتى المتخبط ما بين عالم الواقع وعالم الخيال والنبوءة، وترفض عفيفة ذلك بشدة في بداية الأمر الا انها وتحت طائلة مرض ابنها وولعها بهذا الغريب وعدم معرفتها ادارة شؤون العمال تتنازل عن هذا الكوشان لتصبح الارض ملكًا للمستعمرين اليهود.
وتتحقق نبوءة صالح ولا تمضي ايام الا ويحضر الملاك أصدقاءه المستعمرين ليستلموا العمل في البيارة. اما الرسائل التي يرسلها صالح الى عائلة أبيه في بيروت طالبًا المساعدة فإنها تقع بيد الملاك الذي يقوم باخفائها وبإرسال رسالة بفحوى مختلفة مطمئنة للعائلة بأن الأمور تسير على احسن ما يكون.
عفيفة التي تعي بعد فوات الاوان المصيبة التي حلت بها ونكثها وعدها لزوجها بالحفاظ على الأرض بأي ثمن كان، تصاب باختلال عقلي وتفقد علاقتها بالواقع تاركة رعايتها لخادمتها امينة ولابنها صالح الذي بحاجة لمن يرعاه، وتزداد ايضًا حالة صالح سوءًا فيستغل الملاك ذلك لارسال الفتى بعيدًا بحجة العلاج لمدة اسبوع او اسبوعين، ولكن يتضح فيما بعد انه كان يخطط لابعاده لسنوات عديدة لتحقيق مشاريعه، ولكن تشاء الاقدار وفي طريق الفتى الى المصح تعتدي مجموعة من اللصوص على الفتى ومرافقيه وتقوم بقتلهم جميعًا وسرقة ما معهم، الا ان صالح ينجو بنفسه بعد ان اختبأ خلف احدى الأشجار، ويعود الى البيارة في حالة هذيان قصوى وحالة جسدية بائسة ولكن بتصميم عظيم على قتل الملاك، فيطلبه لليوم التالي للمبارزة، ولكن في اليوم التالي يشتد عليه الهذيان فيلبس فستان عرس والدته ويهيم على وجهه في الحقول ليلقي بنفسه داخل بئر في البيارة طالما تنبأ انها ستكون موقع مماته ويجده الملاك هناك جثة قد فارقت الحياة.
حظي الكتاب على الكثير من التعليقات والنقد منها المؤيد ومنها المعارض، فالقصة أثارت تاريخ هذه البقعة من الأرض، منذ بداية الصراع بين المستعمر الصهيوني اليهودي الأبيض من اوروبا وبين السكان الاصليين أبناءالشرق الذين يمتلكون الأراضي الخصبة التي يريد المستعمر الاستيلاء عليها، فقصة عزبة دجاني هي قصة الاستعمار الصهيوني المتعالي الذي جاء الى الشرق محتقرًا سكانه الا انه يقع اسير جمال الشرق وجمال المرأة الشرقية كما حلل ذلك المفكر ادوارد سعيد بالنسبة لهذا المستعمر ولكن ذلك لا يمنع هذا المستعمر من المحافظة على كرهه واستعلائه لكل ما هو شرقي.
هذه هي اوصاف الهجرة اليهودية الأولى لفلسطين انها فاسدة منذ بدايتها كما يصورها الكاتب هدفها سلب الأراضي العربية وتهجير سكان ارضها لانشاء مستعمرات يهودية، وذلك بقوتهم وبطشهم ومالهم وكذلك باحتيالهم وشرهم، اما سكان الارض الاصليين فانهم ضعفاء وفقراء ولكنهم صادقون واصحاب حق.
وكذلك هم مختلفون عقليًا وعاهرون، فصغيرهم متخلف الفكر الا ان هلوساته هي نبوءة التاريخ الحقيقي، ورجالهم ابتداءًَا من الأب مصطفى دجاني لا تملك صفات الرجولة فانه اشبه بالانثى من الرجل. أما العمال والفلاحون فلا يهمهم سوى لقمة عيشهم ووجبة طعامهم تاركين الأرض التي عاشوا عليها وارتبطوا بها دون مقاومة معتمدين على حماية الله ورعايته.
اما عن النساء فحدث ولا تسل فعفيفة تتصرف بكل ما هو عكس العفة التي لا تتماشى وشهوتها الجنسية التي ادت الى ضياع الأرض وخراب فلسطين.
ويبقى السؤال العالق: هل نحن حقًا كذلك؟! هل هذا هو تاريخنا؟! وهل ذلك هو تاريخ الآخر؟! وأين الواقع من الخيال أو الخيال من الواقع.

* محامية - يافا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى