نجوى بركات - ملاك العتمة..

(إلى يولا حدّاد)


ذلك الزائر الثقيل الذي، بقدومه، يقطع الأنفاس، يجمّد الأطراف، يوصد العينين، ثم يحملنا، أخفّ من الهواء، إلى وجهة مجهولة.
نتناساه. نتحايل عليه. لا نحبه. نخافه. نلعنه. نقفل بوجهه الأبواب. لكنه لا يني يأتي، مختطفاً أحباءنا كيفما شاء. لا يني يأتي. أعتى من أعتى الجيوش، أشدّها قسوة، وأكثرها حيلةً وجبروتاً. وهكذا، حتى النفر الأخير.
الموت شرفة معلّقة تطل على مشهد غروبٍ أبديّ. لا نسمة هواء. لا ضجيج. لا دبيب. شيء من العدم طافٍ ومعلقٌ في الهواء. لا رائحة. لا ارتعاشة. لا رفّة هدب. لا خفقة جناح. فقط بحر من الفراغ ممتد إلى ما لا نهاية.
الأسبوع الفائت، كان لي موعد معها، في باريس. جئت أنا ولم تأتِ هي. رحلتْ قبل أربعة أيام فقط على موعدنا. أربعة أيام. غاب صوتها الذي لم يشخ ولم يعتلّ، على الرغم من المرض الذي كان يأكل رئتيها. بقي صوتها طرياً، ندياًّ، تزيّنه تلك الرنّة التي تفوح بالشهية إلى الفرح والرغبة في قضم الحياة.
كنّا على موعد. لطالما كنا على موعد، هي وأنا. منذ كنا في الخامسة من العمر، ثم في الخامسة عشرة، ثم في الخامسة والعشرين، ثم في تلك الأعمار التي ما عدنا نحسب لها حساباً، مكتفيتين باحتساب ما تبقى لنا من أسباب عزاء.
كنتُ على ثقة أننا سنشيخ معاً، وكان هذا ما يجعل العمر أخفّ وطأةً. وكنتِ لا زلت تحلمين بتلك الجزيرة، إلى حيث ستنتقلين، ذات يوم، لتعيشي لصيقة بالضوء والمياه. لم يكن لجزيرتك اسم، كان لها ملامح شغفك بالفرح، إيمانك بروعة الحياة، وتصميمك على إلقاء الأثقال التي وضعتها الحياة على كاهلك، صغيرةً، واحداً تلو الآخر. حتى مرضك الأخير، لم يكن حملاً ثقيلاً علينا. كنتِ، كأنك أنت الصحيحة ونحن المعتلّون. وحين كنتُ أسألك، همساً، إن كنتِ خائفةً مما أنت مقبلة عليه، كنت تجيبينني بثقة عمياء، "لا، هي مرحلة صعبة وتمر". وكأنّ سعة قلبك الأبيض لم تكن لتترك متّسعاً لتشاؤم، لخوفٍ أو لحزن.
لا أعرف، يا صديقتي، كيف أرتّب أمكنتي الآن من دونك، كيف أنظّم روحي، وما الذي أفعله بهذا الشوق الذي يأبى التريّث. ذاكرتي كلّها مشبعة بك، وبعينيك السوداوين الجميلتين اللتين لم يجفّ بريق مائهما يوماً. لكنك، كالعصفورة طرتِ، وبرقّة العصافير انطفأتِ.
يدكِ في يدي الآن. يدك في يدي إلى الأبد. لا شيء سيسلخك عني، لا الموتُ ولا المسافةُ ولا الغياب. سنبقى واقفتين معاً، كذلك المساء، عند مفترق الطريق المؤدي إلى بيتي، متعانقتين والدموع تجري بيننا، لسببٍ لم يكن سفري إلى بيروت، أو توديعي إياك. أو أنه كان وداعاً قبل الأوان، وبكاءً على كل تلك الأحلام التي هربت منا، كالفراش، فانطفأت وذوت، ونحن في غفلةٍ عنها؛ على مراهقةٍ سقطت كثمرة مهترئة، فكان أن عشناها في بلادٍ لم ترأف بنا، وقد حاصرتنا بالموت والقهر والفجيعة؛ على والدك الذي اختُطف في مطلع الحرب على أحد الحواجز، وكنتِ ما زلت حتى وقت قريب، لا تترحّمين عليه، بل تقسمين بـ "غربته"؛ على القسوة التي عرفتِها باكراً، ولم تـَلْوِكِ، أو تسمّم روحك، أو تُصبك بالمرارة؛ على قصص الحب التي تنتهي نهاية سعيدةً، ولا تحدث لنا، وإنما فقط في الأفلام.
لستُ أدري، هل كنّا نتودّع آنذاك، أو ما كنّا نودّع، لكنّ البكاء الذي جاء فجأة وقبل الأوان، سيبقى يروي، ما حييتُ، يا صديقتي، عشبَ أيامنا معا.
فلتتمدد روحك البهية، ولترقدي، يولا الحبيبة، بسلام.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى