داود سلمان الشويلي - ليلة الحاج الأخيرة

عندما يحين الموعد تسكت كل الأشياء التي لا تمت للموعد بشيء، عن الفعل، والكلام. ويقف العالم عن الدوران، فيرتاح قرن الثور من احتكاك الكرة الأرضية جراء دورانها به، كما تذكر الاسطورة القديمة التي يتداولها الناس. فيما القمر الذي يظهر منتصف كل شهر بسواد غزالته التي التهمته كما يظن العامة من الناس(1)، يسهر مع الساهرين فاتحا عينيه على وسعهما، مبحلقا، وهو يتثاءب من بعيد بعيون أكلها النعاس، ويغفو مع الغافين بعيون انتشت، وسرّت، وفرحت، مما يحدث أمامها. هكذا كانت الدنيا، وهكذا استمرت، وهكذا ظلت، وستظل دائما.
ينحدر الحاج ريحان أبو شوارب، هكذا كان يدعى، مع العلم انه حليق الشارب، واللحية، من عائلة معروفة في المدينة منذ مئات السنين، معروفة باقامة الحفلات الساهرة في القصر الكبير المشيد بالآجر منذ أكثر من مئه عام، وقد جُدّد، ورمّم، عدة مرات، وهو قائم وسط أكبر مزرعة في المدينة، وعرفت ملامح القصر، والمزرعة، بين أبناء المدينة جيدا.
في المزرعة الكبيرة، والواسعة، والتي تقع في المسافة بين المدينة، والصحراء الممتدة جنوبا حتى الحدود السعودية كأنها واحة خضراء أنزلها الله من جناته، سيقوم الحاج ريحان أبو شوارب بليلة من ليالية الساهرة، بعد عناء من التعب الذي أصابه كل هذه الفترة الزمنية جراء أعماله الكثيرة بكثرة نمل الأرض، والواسعة كسماء عالية لا تحد، والمنتشرة كبقع الجدري على مساحة أرض العراق.
اعتاد الحاج ريحان أبو شوارب، كآبائه الأوائل، اقامة مثل هذه الحفلات الساهرة من بعد الساعة العاشرة ليلا حتى بزوغ أوّل اشعاعات الفجر الفضية التي تنهض سريعا، وتتحول الى ما يشبه الخيوط الذهبية، حيث يقيمها في قصره المزروع وسط نخيل تتدلى عثوقها المحملة بالرطب الجني الذي يتلامع تحت أشعة الشمس، وبين أشحار أرضه الواسعة التي تمتد على مساحة ألف دونم، وهي تنوء بحمل كل شيء مثمر، وناضج.
كان الوقت صيفا، وكان الجو حارا يجعل العرق ينز من مسامات الجسم كعيون ماء في الصحراء، وعندما يجف يترك بقعا بيضاء على قماش الملابس، خاصة تحت الأبطين. كانت الصالة تعبق برائحة زكية تبثها قناني العطر الكهربائية الموزعة في كل ركن من أركان الصالة، وهي مربوطة في قوابس الكهرباء.
***
يعرف "فهد" الرجل الذي يدعوه الحاج ريحان بالساعد الحديدي له، موعد اقامة الحفلة. ويعرف كذلك في أي وقت تبدأ. وماذا يقدم فيها من شراب، ومكسرات، ومأكولات. وماذا تقدم من "مزة"(2) لكل مشروب على السفرة المفروشة على الأرض الرخامية، حلوة أو حامضة. ونوع السيكاير الذي يقدم للحاج، أو الذي يقدم لأعضاء الفرقة الموسيقية من عازف للخشبة(3)، وعازف الزنبورة(4)، والكاسور(5)، وعازف الكمان، وعازف العود، والكورس، والمغني ذو العقال واليشماغ الأحمر، والذي شذ عن جميع أفراد الفرقة الذين غطوا رؤوسهم بالغتر(6) البيضاء. وما هو المشروب الذي يقدم للفتاة التي ترقص كما ترقص الغجريات. وكذلك ما هو مشروب الفتاة التي ترقص كما يرقصن الفنانات المصريات، الرقص الشرقي. وأي البنات تجلس في جنب الحاج ريحان الشمالي، وايهما تجلس في جنب الحاج أبو شوارب الآخر. كان يعرف تفاصيل كل شيء، وقد حفظه عن ظهر قلب منذ أوّل حفلة نظمها للحاج ريحان، وأشرف عليها، بعد أن مات والده الذي أورثه هذا العمل.
***
عند صباح ذلك اليوم الذي تقام فيه الحفلة الساهرة، والشمس ما زالت تصعد نحو سمت السماء اللازوردية، وصلت الفرقة الموسيقية المسماة بفرقة "الفرح الساهر"، وهي الفرقة المخصصة لاقامة مثل هذه الحفلات في قصر الحاج، وهم يحملون "خشباتهم، وزنابيرهم، وكاسورهم" المتعددة الأحجام، والأشكال، وآلاتهم الموسيقية الأخرى. كانت قد وصلت باحدى سيارات الحاج المخصصة لمثل هذه المهمة.
أخذت الفرقة قسطا من الراحة بعد وصولها البيت المخصص لها في المزرعة. كان البيت مجهزا بكل شيء يحتاجون إليه. فقد كان "فهد" يعرف الأشياء التي يحتاجونها. وبعد تناول طعام الغداء أخذ أعضاء الفرقة قيلولة ما بعد الظهر استعدادا لليلة الحاج أبو شوارب الساهرة.
***
في تلك الليلة يحرص مدير قصر الحاج أبو شوارب المدعو "سبع" على أن يضيء كل مصابيح القصر، والمزرعة على امتدادها الواسع، والعريض، وبجميع ألوانها، وأحجامها، وأشكالها، وهي تزهو بما فيها من أشجار مثمرة، ونخيل، وخضرة، وأزهار، وورود ملونة، وباعثاق الرطب الدانية، والفاكهة التي على الأغصان كانت طرية، مثمرة، ناضجة.
كان كل شيء قد هيء لهذه الحفلة الساهرة، وكان الحاج أبو شوارب قد وصل قصره، وهو الآن يغط بنومه منذ أن وصل استعدادا للسهر دون أن يترك السهر هذا هالات داكنة تحت عينيه فتتشوه صفحة وجهه الحليق رغم سنه الستين.
***
عند بدء السهرة، كانت كل المأكولات جاهزة، بعد أن أعدّها الطباخون في مطبخ القصر مسبقا. فرائحة اللحم، والسمك، المشوي على الفحم، والمرق الأحمر الحار، تملأ أرجاء المطبخ الملحق بالقصر، وكان المطبخ كخلية نحل لا يهدأ العاملون فيه بصداريهم، وأغطية رؤوسهم البيضاء، من الحركة. أما الخبز فما زال حارا و"مچسبا"(7)، وكأنه خرج للتو من التنور الطيني. والخضروات بأنواعها، كانت طازجة، ومغسولة، ومنظفة. والفاكهة الطرية قد وزعت بأوان كبيرة. وأقداح اللبن، السائل أو الخاثر، والمصنوع من حليب أبقار المزرعة نفسها، قد أحضرت جميعا.
***
في الساعة العاشرة ليلا بتوقيت ساعة الحاج ريحان أبو شوارب، بدأت الموسيقى تتصاعد من بين ألات أعضاء الفرقة في أرجاء الصالة الكبيرة، والواسعة، والمضاءة بأضوية نهارية، وقد جلس في أحد أركانها الحاج ريحان كسلطان غير متوج منشرح الأسارير، وهو يرتدي دشداشة بيضاء مطرزة بخيوط من الذهب الخالص، فيما صلعته الكبيرة تلتمع تحت وهج أضوية "الثريا" الكبيرة المعلقة أسفل قبة الصالة التي تنتصف سقف القاعة، والمضاءة بالمصابيح النهارية. فيما الفرقة الموسيقية جلست قبالته، وهي تلاعب آلاتها باتقان، وقد جلس الكاسور أحمر الوجه، ولحيمه، متقدما عن زملائه بساق قائمة مثنية من الركبة، فيما دس الساق الثانية تحت جسده الثقيل، وقد وضع الطبلة على الساق القائمة وراح ينقر عليها باتقان، فيما رددت أركان القاعة نقراته السريعة، والمنتظمة، المتجاوبة مع صوت المغني الذي راح يصدح بالمقامات البصرية المعروفة(
😎
. تصاعدت النقرات من الكاسور، فيما تصاعد صوت المغني، وقد تجاوب معه صوت الكورس، وتصفيقهم الخاص، وراح صدر الراقصة التي ترقص كالغجريات يهتز يمينا وشمالا، والساعدان منها مرفوعين للأعلى، وهما يتمايلان مع حركة نهدي الراقصة النابضين من تحت ثوب الرقص الخفيف.
كان الحاج ريحان أبو شوارب جالسا في مكانه لا يتحرك يمنة، ولا يسرى. كانت عيناه تبحلقان بالراقصة البيضاء البشرة، وهي تتجاوب، ونقر الكاسور، فيما كانت الفتاة الجالسة على يمين الحاج تنظر الى الراقصة. والفتاة التي تجلس الى شماله تصب الويسكي في كأس الحاج الخالي. كانت قنينة الويسكي من النوع الاسكتلندي الفاخر. كانت الموسيقى تتصاعد، والراقصة تتمايل، وتهز كتفيها باتقان، وكان "فهد" يقترب من مجلس الحاج بكل هدوء، والفتاة التي تجلس شمال الحاج ترفع الكأس الى فمه، اقتربت الراقصة، وهي تفتر في الساحة الوسطية للصالة من مجلس الحاج، اقترب الكأس المحمول بيد الفتاة الجالسة الى شمال الحاج من فمه، تصاعد نقر الكاسور، وساح صياحه في أرجاء الصالة كما يسيح الماء في شقوق أرض عطشى. أقترب الكأس من فم الحاج، اندفع الى شفتيه بكل هدوء، انحت الراقصة، وهي تفرش شعر رأسها الأسود الى أمام وجهها، مال جسد الحاج الى الخلف باندفاع الكأس فسال ما فيه من سائل أصفر ونزل على الدشداشة البيضاء المطرزة بخيوط ذهبية، صرخت الفتاة بأعلى صوتها: يبـــــــــوي(9). وسكت كل شيء في الصالة، والمطبخ، والمزرعة.
***
الهوامش:
1 – يا حوته يا منحوته هدي ڰمرنا العالي: هذه اسطورة قديمة يتغنى بها العامة من الناس عند خسوف القمر ثم أصبحت خاصة بالأطفال يتغنون بها.
2 – مزة: أكلة من المقبلات، مثل اللبن والثوم، أو مثروم الخيار باللبن، او الباقلاء المسلوقة، أو اللبلبي المسلوق، وغير ذلك.
3 – الخشبة: هي طيلة صغيرة تصنع من الخشب يعزف عليها.
4 - الزنبورة: هي الخشبة السابقة ولكنها أضيق فتحة.
5 – الكاسور: هو الطبلة التي أكبر من الخشبة وسمي الشخص العازف عليها كاسورا، وهو لولب الفرقة في العزف.
6 – الغتر: جمع غترة، وهي يشماغ ابيض اللون ليس فيه خيوط محاكة.
7 – مچسب: أي ناضج.
8 – المقامات البصرية: هي المقامات الموسيقية اللمعروفة إلا انها تغنى بطريقة طربية، ويرافقها تصفيق خاص يسمى "الشدة".
9 – يبوي: لفظة تطلقها المرأة عند حدوث شيء سيء ومفاجيء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى