آدم يوسف «سَندّو» - الثقب وميلاد الأشياء.. قصة قصيرة

وَظَهَرَ فُجْأَةً كَالْمَوْتِ ، لَحْظَتَهَا أَدْرَكْتُ كُلَّ شَيْءٍ ،كَانَ مِثْلَ الْحُلُمِ ، مْثْلَ كَابُوسٍ مُرِيعٍ ،يَذُوبُ فِي صَدْرِي ، لاَ أَدْرِي لِمَ نَحْنُ نُحِبُّ الْمَاضِي، وَلِمَ ذَاكِرَتُنَا لاَ تُفِيقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ ، الْمَاضِي هَذَا الشَّجَرُ الْعِمْلاَقُ الْمُفْتَرِئُ.
كَانَتْ لَنَا خَلْوَةٌ ، وَكَانَ جَدِّي يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ، لَحْظَتَهَا عِشْتُ فِي قَلْبِ الْمَدِينَةِ الصَّغِيرَةِ مِثْلَ الْعَصَافِيرِ لاَتَخَافُ الْمَجْهُولَ ، لاَ تَحْمِلُ فِي قَلْبِهَا ضَغِينَةً أَوْ كُرْهاً ، أَوْ بُرُوداً .
الآبَاءُ فِي حَارَتِنَا، دِعْنِي أَقُولُ حَارَتُنَا رَغْمَ أَنَّنَا لاَ نَمْلِكُ فِيهَا بَيْتاً أَوْ قِطْعَةَ أَرْضٍ إِلاَّ أَنَّنِي أُحِسُّ أَنَّهَا مِلْكُنَا، أُحِسُّ رَغْمَ بُعْدِي عَنْهَا هِيَ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ الْعَرِيضِ.
أَوْلِيَاءُ الأُمُورِ فِي حَارَتِنَا يُرْسِلُونَ أَبْنَاءَهُمْ إِلَى الْخَلْوَةِ ، فَأَتَتْ «كَرِيتَا» وَكَانَ أَوَّلَ لِقَائِى بِهَا ، كَانَتْ فَتَاةً بَرُونْزِيَّةً ، مَلْسَاءَ ، الْتَقَيْنَا بِسُهُولَةٍ وَغَدَوْنَا أَحِبَّةً، كُنْتُ .. وَكَانَتْ .. لاَ نَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمَالِ وَالْقُبْحِ، فَكُلَّمَا كَانَ أَمَامَ نَاظِرَيْنَا جَمِيلٌ، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، بَيْنَ الرَّخَاءِ وَالْبُؤْسِ، آهٍ، وَظَهَرَتْ فُجْأَةً كَالْمَوْتِ .
كُنْتُ أَرَتِّلُ وَفِي يَدِي اللَّوْحُ الْخَشَبِيُّ ، وَالدَّوَائِيُّ أَحْيَاناً أَحْمِلُ الْقَصَبَ وَأَرْسُمُ، أَرْسُمُ مَا يَحْلُو لِي،الشَّوَارِعُ غَرِيبَةٌ عَلَى خَارِطَتِي، فَالأَطْفَالُ الْمُشَرَّدُونَ أَمَامَ الْعَرَبَاتِ،الْفَارِهَةِ، أَحْيَاناً يَبْصُقُ أَحَدُهُمُ الدَّمَ ،صُوَرُ الْمَآتِمِ تَمُرُّ مِثْلَ عَقَارِبِ السَّاعَةِ، لَمْ تَعُدِ الصُّوُرُ تَحْجُبُ عَنَّا الرُّؤْيَةَ، لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْجُبَ عَنَّا ذَلِكَ الْكَائِنَ الْمَجْهُولَ الَّذِى يَقِفُ أَمَامََنَا لَمْ تَعُدِ الأَحْلاَمُ كَمَا كَانَتْ ، وَاخْتَفَتْ «كَرِيتَا» وَظَلِلْتُ أُنَادِيهَا .
صُوَرُ الْمُعَاقِينَ، صُوَرُ الْحُفَاةِ ، صُوَرُ آكِلاَتِ اللِّبَانِ ، كُنَّا نَسْهَرُ ، وَقْتَهَا كَانَتْ سَهْرَتُنَا الضَّحْكَةَ ، عِنَاقُنَا كَانَ يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ ، السَّلاَمَ ، وَالأَمَلَ وَالزَّرْعَ الأَخْضَرَ، وَالْمَطَرَ .
أَتَسَرَّبُ الآنَ كَالْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْجَالُونِ الْمَثْقُوبِ، وَلاَ أَحَدَ يُبْصِرُ هَذَا الثَّقْبَ، كُنَّا وَقْتَهَا نَلْعَبُ ، وَنَدُورُ ، وَنُغَنِّي، كَانَتْ تَدْخُلُ مَنْزِلَنَا دُونَ رَقِيبٍ وَكُنْتُ أَدْخُلُ مَنْزِلَهُمْ كَمَا يَدْخُلُ الْحَجِيجُ بَيْتَ اللَّهِ ، وَالآنَ رَأَيْتُهَا وََرَأَيْتُهُ ، وَرَأَيْتُ الأَشْيَاءَ تَظْهَرُ فُجْأَةً كَالْمَوْتِ .
رَجُلٌ مَضْرُوبٌ ضَرْباً مُبَرِّحاً يَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَآخَرُ يُغَنِّي، وَيَسِيرُ بِمَلاَبِسَ تُغَطِّي نِصْفَ جَسَدِهِ، وَالْمُسْتَشْفَيَاتُ مُكْتَظَّةٌ بِالْمَرْضَى، وَالْمَرْضَى يَسْمَعُونَ عَوِيلَ النِّسَاءِ ،وَالدُّرُوبُ مَلِيئَةٌ بِالأَوْسَاخِ ، وَالأَوْسَاخُ تَدُورُ وَتَدُورُ ..
اِخْتَفَتْ «كَرِيتَا» بِطُولِهَا الْفَارِعِ، وَلَوْنِهَا الْبَرْوَنْزِي، الأَمْلَسِ، اِخْتَفَتْ كَرِيتَا كَمَا اخْتَفَى وَالِدِي وَظَلَّتْ أُمِّي تَنْتَظِرُهُ ، لَمْ يَعُدْ .
أَصْوَاتُ الأَجْهِزَةِ الصَّغِيرَةِ ، الطَّرُوبَةُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، أَصْوَاتُ الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ هَاجِعَةٌ، فِي سُكُونٍ .
كُنَّا أَنَا وَ»رِيتَا « وَلِعَيْنِ بِمَشَاهَدَةِ الأَفْلاَمِ ، خَاصَّةً الأَفْلاَمَ الْهِنْدِيَّةَ ، الْغَرَامَ ، الْعُنْفَ وَالثَّأْرَ ، وَالتَّحَدِّيَ ، نُشَاهِدُ الأَفْلاَمَ مُشَاهَدَةً جَمَاعِيَّةً ، خُشُوعٌ ، كَأَنَّنَا نُؤَدِّي فَرِيضَةً مُقَدَّسَةً ، أُهْدِي مَالَمْ يَستَطِعِ الآبَاءُ أَنْ يُحَقِّقُوهُ لَنَا ، نُشَاهِدُ لِنَحْلُمَ بِالأَشْيَاءِ وَالأَشْيَاءُ تَخْتَفِي وَتَظْهَرُ فُجْأَةً كَالْمَوْتِ .
كُنَّا ، آهٍ مَنْ كُنَّا .. لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ كُلَّ مَا يَجْرِي ، لَمَّا أُحْضِرَ إِلَى حَفْلَةٍ كَانَ يُقَدِّمُ لِلْجَمِيعِ وَرْدَةً يَحْمِلُهَا وَيُقَدِّمُهَا لِمَنْ يَشَاءُ ، قُلْتُ لَهُمْ « إِنَّ كُلَّ مَنْ حَوْلِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الْخُبْزِ « ..
زَغَارِيدُ تُوحِي بِأَنَّ هُنَاكَ عِرْساً، هُنَاكَ فِي الأَكْوَاخِ صُرَاخُ أَطْفَالٍ تُوحِي بِأَنَّ هُنَاكَ خَلْفَ الْمُدُنِ، لَفَّ الْمَنَازِلِ وَالْقُرَى جُوعاً.
أَيْنَمَا اتَّجَهْتُ لاَ فَرْقَ، لَمْ أَجِدْهَا، هُنَاكَ الأُمُورُ تَظْهَرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، ظَهَرَ فُجْأَةً، فُجْأَةً كَالْمَوْتِ .
*كاتب وأديب تشادي مقيم بالخرطوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى