عبدالله البقالي - الغدير الأزرق

من اعلى الهضبة المطلة على الطريق القادمة من غرب القرية ،تسمر قائد المجاهدين بين الاشجار ، يرصد بمنظاره تحرك قوات الاحتلال التي كانت قد غادرت القرية , و تسير في قافلة طويلة سالكة الطريق الملتوية ، مخترقة الربى وحقول التين و الزيتون , وتتجه منحدرة صوب مضيق يتقاطع عنده واد صغير مع واد كبير قادم من شمال القرية.
كل شئ في الظاهر كان يبدو هادئا ، بما في ذلك سرعة القافلة العسكرية . لكن أعصاب الجنود كانت متوترة ,. و البعض منهم كان يتحدث بأصوات عالية ،و كأنهم كانوا يحاولون طرد الخوف الذي كان يحاصرهم .
الامر لم يكن في حاجة الى حدس لادراك حرج الموقف ،فاللحظة بالقدر الذي كانت فيه تاريخية بالنسبة للأهالي, فقد كانت في الوقت نفسه لحظة انسدال الستار عن حياة الكثير من الجنود.
لم يكن ثمة شك في أن العشرين كيلومترا التي ستقطعها القافلة على جنبات واد ضيق تحفه منحدرات شديدة تغطيها غابة كثيفة ستتحول الى ممر للموت. لحظة لم يأخذ مهندس ذلك الطريق في الحسبان الحرج الذي سيواجهه الجنود هذا اليوم.الأمر كان يقينيا , نطقت به تعابير الوجوه التي كانت تنظر في يأس الى الاسلحة التي كانت تبدو بلا جدوى . غير انه في المقابل كان ثمة أمل و ان كان ضعيفا في أن يمتثل المجاهدون للاتفاق الذي توصل اليه المتحاربان و الذي يعد هذا الانسحاب ترجمة له .لكن هذا الاعتقاد لم يكن واردا عند الضباط الفرنسيين الذين كانوا قد اعدوا للأمر عدته , وعملوا على الانسلال عن القافلة في سيارات صغيرة عند بلوغها بوابة الممر الضيق .مستدرجين المجاهدين لمهاجمة القافلة ماداموا يرغبون في أن تكون خسائر العدو كبيرة .قائد المجاهدين لم يجد في البدء تفسيرا لما كان يرى , غير أنه فطن للمسألة في النهاية فناول المنظار لمساعده وهو يقول : يا لها من مقايضة ..ا
صوب المساعد المنظار , تأمل الوضع جيدا ثم أجاب معلقا : أجزم أنه لم يبق ضابط فرنسي واحد داخل القافلة .
رد القائد : اذن , تعازيي لشعب السنيغال و للأخوة في الجزائر .
انسل الرجلان الى الخلف لتفقد الوضع , و التأكد من نجاعة الترتيبات لتنفيذ الهجوم الأخير . معركة لن يكون لها أي طابع استراتيجي مادام المستعمر قد قبل الجلاء . لكن المشاعر التي أججتها سنوات الغطرسة , و القهر الذي مورس بلا هوادة ، و الأعراض التي انتهكت , و الخيرات التي صودرت ,و الاحقاد التي تراكمت , فتلك أشياء كان المجاهدون يرون أنها مسائل تخصهم لوحدهم وهم من لهم الحق في خوض تفاصيلها على طريقتهم .
توقف القائد مشيرا الى مقاتل منبطح على الأرض سائلا المساعد : من يكون هذا ؟ أظن أني أراه للمرة الأولى ؟- انه " الكبرال " بلميمون . حارب مع الفرنسيين في آسيا , انضم الينا بعد أن علم أن السلاح الذي بيده الآن لم يكن يستعمل في المعارك السابقة بسبب عدم وجود من يحسن استخدامه .
حيى القائد الكبرال الذي كان يتابع بتركيز شديد القافلة القادمة من بعيد , وهو يسترجع تفاصيل لمعارك عاشها في أماكن متباعدة من اطراف المعمور .لكن ذلك المكان بمنحدراته وغابته الكثيفة ذكره بالمعركة الشهيرة " بيان ديان فو " المعركة التي يخالف ببساطنته كل من أرخوا لها و تحدثوا عنها .فهو يرى أن الهزيمة كانت قد حدثت قبل ذلك .لقد كان الفرنسيون الافضل تسلحا . لكن أطنان القنابل و البطش الذي مورس بلا رحمة لم يصنع غير صمود الشعوب التي حاربوها .هو شخصيا يذكر أن السنين التي أمضاها في تحريك دواليب الجهاز الذي كان يحمله على ظهره , والذي كانت تمتد منه حرارة عبر أسلاك كانت تثبت على أعضاء حساسة من أجساد الاسرى و المعتقلين , لم تفض الى انتزاع اعترافات بقدر ما افضت الى ان وجوه المستنطقين غمرت ببصاق المعتقلين.كان يقف غير قادر على فهم كيف يتحول المندحر الى منتصر و و الهزيمة الى صمود , و الالم الى شموخ و الضعف الى قوة. أحيانا كان يشك في فعالية الجهاز , فيضطر الى أن يجرب مفعوله على نفسه . ومن ثم تحولت صيحات المعذبين الى صرخات أيقضت ضميره الخامل .تمرد , رفض أن لا يحمل الجهاز ثانية .لم تفلح القوانين الزجرية في تقويمه . ولم يعاود الخدمة الا حين اعيد تدريبه ليحمل السلاح . لكن ثورته وتمرده تواصل . أججتها المنشورات التي كان ورفقاؤه يجدونها كل صباح في مسالكهم مكتوبة باللغة العربية موجهة الى الجنود المغاربيين داخل الجيش الفرنسي . منشورات كانت تدعو الى وحدة المعركة من خلال فضح جرائم الفرنسيين و ما اقترفوه في واد زم و الدار البيضاء و وهران وعنابة وفي كل شبر من أرض المغرب .سرح من الجندية بعد الاقتصاص منه . لكنه عاش بعد ذلك معذبا . خياله كان يستعرض كل الوجوه التي كانت تصرخ بالألم من جراء حرارة الجهاز الذي كان يشغله , لكنها لم تعد تصرخ في وجوه المستنطقين , بل صارت تصرخ في وجهه وحده .عبثا حاول ان ينتزعها من ذاكرته , أن يطردها من خلال اشعال الضوء أو دفن رأسه بين الوسائد .لكنها كانت تعانده وتشهد بجرمه .
حين عاد للقرية لم يتحمس احد لعودته . كل العيون التي كانت تقع عليه كانت تنطق بالرياء و الشكوك .حاول ان يتحدث الى الناس , أن يبلغهم توبته , أن يتبرأ من التاريخ الذي كان فيه مسلوب الارادة عند كتابته , أن يعلن جهارا أن بذور الكرامة لازالت تغلي في دمائه .لكن الفرصة أتته اخيرا حين سمع بالصدفة حديثا عن السلاح الذي غنم في المعركة الأخيرة . تأكد من النوع و اقتحم المجلس .تحدث بتفصيل عن كل قطعة فيه ،عن تفكيكه وتركيبه،, عن مداه , عن شحنه و طريقة تشغيله و انتظر بلهفة اشارة من المتحدثين الذين تبادلوا النظرات صامتين . وبعدها أومأ أحدهم برأسه و طلب منه مرافقته
كان يطير فرحا وهو يحس انه لم يعد غريبا عن ذلك النسيج . سيستطيع بعد اليوم أن ينام في هدوء .لن يسمع صرخات العذاب .بل هو من سيصرخ في وجه من دنسوا تاريخه .سيتعدى الأمر الصراخ و سيقتص ممن زرعوا العذاب في لياليه .احساسه كان مختلفا وهو يسير مع مرافقيه .لم يكن همه تلك المرة الارتقاء في المراكز العسكرية و لا الحصول على النياشين و ثناء الضباط , وانما كان حافزه أن يعلن انتماءه , أن يبدي مساهمته لصنع ملحمة ستبدأ بعد حين باشارة من قائد الموقع الذي خاطبه قاطعا الشريط - نحن نعول كثيرا على دورك لنجعل هذا الممر مقبرة للغزاة
رد بلميمون مستعجلا مرور الوقت : بل سنجعله سعيرا لا تخمد ناره .ا
لقافلة تصل الآن الى الى المكان المرسوم في الخطة . مقدمتها عند منعرج شديد الضيق ينفتح على مكان شبه مغلق .ومؤخرتها كانت قد عبرت مدخل الممر وعبرت القنطرة الصغيرة , المسافة التي كانت تفصل بين كل شاحنة وأخرى كانت ضيقة للغاية .ومجال الهروب كان منعدما لدى الجنود الذين كانوا يجدون أنفسهم محاصرين باتقان.
و دوت الطلقة الأولى .بل انفتحت بوابة سد عظيم زاخر هادر بمشاعر هي مزيج من الحقد و الكراهية والانتقام ورد الاعتبار .انفلقت أبواب السماء لينهمر وابل من الرصاص و الموت ليتوزع على كل شبر من رقعة المعركة .ارتبكت القافلة وهوت العربات و الشاحنات الى عمق الوادي أو لتنقلب على جنبات الطريق .ارتفعت صيحات هائلة , صيحات تكبير و تحريض على الاستشهاد , وصيحات ندبة و ألم و تحذير و طلبات النجدة.اختفى المكان و تعذرت الرؤية بسبب دخان الحرائق لتظهر فقط ألسنة النار التي انطلقت لتلتهم العربات و الغابة و البشر . انعبق الجو بروائح المحروقات و الرصاص و الدم المتخثر .حمام دموي , كلمة رد لمتحدث ظل مكمم الفم طوال سنين . تدفق الدم عبر المجاري و الخنادق , تعكرت زرقة الماء الذي صار بنيا ثم أحمر قانيا . وتحول الغدير الأزرق الى غدير أحمر .
تجمع المجاهدون حوله وهم ينظرون اليه بأحاسيس مختلفة .أحدهم صاح في الرجال : انظروا، الأرض تتخلص من الدنس .دنس انجلى أكثر حين تلاشت الغيوم , ليخرج المقاتلون الى الطريق الاسفلتي وهم في أوج نشوتهم يتعانقون و يهنئ بعضهم البعض على كسب رهان لم يكن تحقيقه سهلا .وبدأوا في اطلاق الرصاص وهم ينشدون نشيدهم الافواه كانت صلبة , تلفظ الكلمات بشكل ضاغط عنيف , والقسمات كانت حادة تعبر شراسة وحدة واصرار على كسب المعركة
في الوجهة الأخرى كان كل من في القرية يركض مسابقا الريح في اتجاه موكب الرجال .النساء كن يضحكن , يزغردن ويبكين غير مصدقات أن ليل القهر قد و لى .في عيونهن كان شوق و قلق كن أمهات فارقن أبناءهن و رجالهن , واخوات وبنات اشتقن لآبائهن و اخوانهن ..هواجس كانت تكبر مع كل خطوة .لكن خطى الرجال الزاحفة كانت ترسم كل أشكال التحدي و تسخر من هواجس النساء التي توارت لترتفع الزغاريد , وتنفتح الأحضان لتنصهر الأجساد تحت تاثير عناق حار طويل
شاب جرى الى حيث الوقعة الاخيرة بعدما تاكد من ان من كان يبحث عنه لم يكن ضمن الموكب . كان يتفحص وجوه الجثث حين اتاه صوت من الخلف : الآن وقد تطهرت فليأت الموت من غير خوف .
جرى اليه . تفحصه . كان الكبرال بلميون غارقا في دمائه . سحبه بعيدا . فتح بلميون عينيه .لمح دمعة كانت تنحدر على وجنة الفتى . قال بلميمون معاتبا : الرجال لا يبكون يا فتى ..ثم أضاف بصوت متقطع : اذهب الى هناك حيث وجدتني , هناك ستجد رشاشي , خذه , وان عاد الغزاة أو تجبر الطغاة ، اضغط على الزناد تتجدد الحياة ..أ
أرخى بلميمون راسه . حمل الفتى الرشاش . صوبه اتجاه السماء , أزاح نظره عنه وراح يتابع سحابة سوداء داكنة في تلك السماء الزرقاء و بدأ يتابعها وهي قادمة من بعيد اتجاه سماء القرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى