صفاء عبدالمنعم - روب أزرق..

هذه صورة الست.
أم كلثوم.
كانت معلقة أمام عيني بجوار جهاز المونوجرام بمركز صحة للأشعة بشارع محي الدين أبو العز.
كادت عيناني أن تبكي بحرقة الوحدة والألم،و أنا أخلع ملابسي للمرة الثانية، خلف الستارة الحمراء.
عندما رفعت الممرضة صوتها وهي تمد يدها لى من وراء الستارة:يا مدام،هنخلع ملابسنا كلها،ونلبس الروب الأزرق.
مددت يدي وأخذته منها وأنا أقبله.
لقد تعودت منذ زمن بعيد أن أقبل الأشياء داخل المعمل أو مراكز الأشعة.
أحتضنها بشوق أم، ومحبة زوجة، وأقبلها وأقول لها بصوت هامس : " كوني بردا سلاما على جسدي الطيب المهجور".
ثم خلعت ملابسي،وأرتديت الروب الأزرق المفتوح من الأمام وخرجت من خلف الستارة،بعد أن كومت الملابس على الكرسي الجلد وتركته يتولى رعايتهم.
وأنا أخرج من خلف الستارة،لمحت نظرة أم كلثوم نحوي،نظرة أم تريد الأطمئنان على أبنتها.
......
فى البداية عندما دخلت الحجرة الصغيرة والنظيفة نظافة تفوق الوصف.
لم ألمح الصور بشكل جيد،أعتقدت أنها مجرد براويز تزين الجدارن على الطريقة الحديثة.
ولكن ما هالني وأدهشني لدرجة الفرح والسعادة، أنني أمعنت النظر جيدا فى تلك اللوحات المعلقة في الحجرات التى دخلتها والممر الذى سرت فيه بصحبة الممرضة التى أصطحبتني منذ دخولي إلى المركز من عند الباب،بكل رقة ومحبة، كأنها أبنتي،أخذت بيدي وأجلستني على الكرسي،ثم وضعت لي سلما صغيرا كي أصعد عليه بكل هدوء وهى تبتسم فى محبة:أتفضلي يا ماما نامي على ظهرك،ثم أتت بالجهاز وأخذت تضبط الشاشة الصغيرة على الكمبيوتر. عن بعد لمحت شاشة كبيرة أسفل قدمي،تظهر زوايا الثدي المختلفة،وأنا أتابع عمل الطبيبة على الكمبيوتر.
آه منها تلك الحداثة التى أرهقتنا ماديا رغم أنها ترصد حركة المرض بدقة فائقة.
أخذت الطبيبة تردد فى هدوء:
مدام نامي على جنبك اليمين.
مدام نامي على جنبك الشمال.
وبعد أن ألتقطت الكثير من الصور.
وأنا أتابعها على الشاشة التي أمامي.
ثم قالت:تمام.
جاءت الممرضة البشوشة وأخذت بيدي وأخرجتني من الحجرة الصغيرة،ودخلنا حجرة أخرى.
أعرفها جيدا لقد رأيت هذا الجهاز من قبل،أنه يلتهم الثدي بقوة وعنف مثل طفل جائع.
وعندما صرخت بقوة.
قالت الممرضة فى هدوء وببرود شديد:مدام،معلش نستحمل شوية صغيرين.
كان بودي أن أقول لها : كيف يحتمل المرء ألة تعذيبه؟
هل يجب على الضحية أن يقبل يد الجلاد؟
ولكنني صمت وأخذت الجهاز فى حضني وألقمته الثدي اليمين ثم الثدي الايسر كي يشبع ويهدأ.
أستمر الوضع ربما للحظات.
نعم هى لحظات.
ولكنها تساوي مئات الأوقات،مقابل الضغطة القوية والألتهام الشرس.
هل من سمع مثل من رأى؟
بالتأكيد لا.
ولكن كل العذابات تؤدي إلى نقطة واحدة، هى الضعف الأنساني،حتى وأنت قوي أو مريض.
وعندما أنتهى الموقف نادتني الممرضة من الداخل:ممكن نلبس هدومنا تاني يا مدام بسرعة.
خرجت سريعا هاربة من أمام الجهاز وأنا أحمل ملابسي بين يدي من على الكرسي وأقف خلف الستارة مرة أخرى،أنزع الروب الأزرق، وأجلس فى هدوء أم شبع أبنها من ثديها ثم ذهب فى نوم عميق.
......
وعندما عدت عائدة من نفس الممر الذى دخلت منه،وجدتهن جميعا في أنتظاري على الحائط، نساء جميلات يرفلن فى اللون الوردي،تعرفت على كثيرات منهن وكانت أكثرهنا شغفا ومودة لرؤيتي لوحة(درية شفيق)يا الله،يا وسع النعم،حبيباتي واقفات فى أستقبالي، وكأنني فى أحتفال كبير، بصحبة ليلة ممتعة،لقد زال الألم والخوف والرهبة من قلبي، ووقفت أقبلهن جميعا بعد أن تركتنى الممرضة عند الباب.
وبعد أن تركت الروب الأزرق وحيدا على الكرسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى