عبدالله عبدالإله باسلامه - عمى..

يحبو على حجري، يد يمسك بها زجاجة الرضاعة، وبالأخرى يتلمس وجهي، وعنقي، يداعبني - كعادته - لا ألبث أن أنفجر بالبكاء، فأضمه إلى صدري .

لايزال شذاها عالقا بالثياب، والأثاث، وحتى الجدران تعبق برائحتها، لا يفتأ صوتها يتردد في كل أنحاء البيت، دافئا، مطمئنا، هل تريد شيئا يا حبيبي؟ الهاتف على يمينك، نصف ساعة وتغلق النافذة يا روحي حتى لا تصاب بالبرد، الرضاعات وعلبة الحليب الثانية على الكومدينو، انتقيت لك أغان جميلة، الريمونت على الرف فوق رأسك، ولا تنسى مهما طرقت عليك العقربة (بلقيس) فلا تجبها، ولا تسمع لها فهي بنت طماعة، هل تريد شيئا آخر ياحبي...؟

كانت حريصة على أن يكون كل شيء بمتناول يدي، وقلبي، فهي عالمي كله، ونافذتي الوحيدة بعد أن فقدت بصري في الحادث الذي وقع لي قبل عامين .

حتى إدارة مصنع البلاستيك الذي أملكه تولته بكفاءة، رغم معرفتي بمصاعب قيادته، ومخاطر ومتاعب إدارته؛ إلا أن الأرقام التي يوافيني بها - رأس كل شهر - مسؤول الحسابات الجديد الذي انتقته هي بعناية قد أدهشتني، وأثبتت لي كم تبذل جهدها، وتضحي بنفسها، نائية بي- في ذات الوقت - عما قد يزعجني، حتى هاتفي أصرت أن تجعله مثل قلبي حصرا وقصرا على رقمها، فلا أسمع غير صوتها.
فتزيدني كل يوم سعادة وحبا لها، وتعلقا وثقة بها، وحيرة ممزوجة بالأسف كيف أني لم أرها؟ أو أكتشفها من قبل؟، وهي الموظفة عندي منذ سنوات في قسم الألوان الذي دخلته صباح ذلك اليوم بعجالة مصطدما بالعمود الجديد الذي كانت تعمل على تثبيته من أجل تدعيم الرفوف، لتسقط علب الصبغات على رأسي، وتتضرر شبكة عيني، لولا أن هبت هي لإنقاذي في تلك اللحظة، فوسدتني رعايتها، ودثرتني بحنانها، واهتمامها، ثم ظلت بجانبي.
لأول مرة -في حياتي- شعرت بوجود إنسان قربي، وأحسست بدفء امرأة حقيقية تحتويني، وتذوقت حلاوة أنثى تعشقني، وتحنو علي بلطف، ورقة لا عهد لي بها، ولم أسمع بمثلها إلا في خرافات الأفلام، والمسلسلات، ولم أك لأهتم بهذه السفاسف متخطيا سن الأربعين بعناد، أعزبا، وحيدا بعد أن بترت علاقتي بأقربائي، وكل أصدقائي الطامعين في ثروتي، واستبدلتهم بقرابة تروس الآلات، وأجهزة المحركات، واقسام المبيعات، وصداقة المستودعات، وأخبار احتياجات السوق...

بمجيء الطفل رأيت مالم أكن لأراه لوكنت مبصرا من جمال بزوغ فجر زاخر بالأحاسيس، دلفت إليه بعنفوان الأبوة التليد، ليصبح هو الأنيس الونيس، يملأ كل فراغي، فلا يفارق حضني يلعب، ويأكل، وينام، ويتغوط على حجري .

وفي الليل أترقب لحظة عودتها، فأنا الخبير بمواضع الألم، خاصة قدميها المجهدتان من أثر التنقل من مكان إلى آخر والوقوف طوال النهار، فتصابان بالرضوض على الدوام، والتي مرنت أصابعي في تدليكها، وغمرها بالكمادات، والمرطبات العطرة، ثم أرشها بقبلات الإمتنان لها، والإشفاق عليها، وأسكب في أذنيها همسات غزل قضيت النهار في تأليفها، وإلى أن تغفو أحكي لها قصة مما علق بذاكرتي الضحلة .

لكن في ذات ظهيرة تلقيت ضربات قوية متتابعة على الباب تطاير لها قلبي شعاعا، رافقها صوت بلقيس بنت جارتنا وهي تتلعثم بكلمات مضطربة حول وقوع حادث مروري لزوجتي.

ألفيت نفسي بعد رحيلها من الدنيا أعمى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وحيدا، عاجزا تماما عن تدبر أمري، ورغم حذري إلا أنني اضطررت إلى طلب المساعدة من بلقيس.
قالت أنها تدرس طب العيون، وأنها شرحت لزوجتي مرارا وتكرارا بأن المادة السامة التي تعرضت لها معروفة، وأن حالتي قابلة للشفاء، لكن - المرحومة - لم تسمح لها.

وافقت بعد تردد على إجراء العملية فكان وجهها الجميل هو أول ماوقعت عليه عيناي، تعجبت وأنا أتاملها هل أنا أعشى لهذه الدرجة؟! وكنت أراها - قبل الحادثة - كل يوم على السلم!.
رغم فرحتي بأن رد الله علي بصري إلا أن شكل الطفل الغريب، وملامح وجهه المختلفة نغصت علي سعادتي.

عدت سريعا إلى المصنع الذي ساء حاله، وتدهور نظامه، موشكا على الإنهيار... فإذا بي أفاجأ بحرارة التفاف العمال حولي، استحيت لرؤيتهم يبكون فرحا بعودتي، ويتعاضدون بقوة معي، وأنا الذي كنت أراهم بعيون مكحلة بالرمد ساوت بين قلوبهم الطيبة، وبين السخام الذي يغطيهم .

أخبروني بأن -المرحومة- كانت تحول بينهم وبين التواصل معي، أو حتى الإتصال بي، وأنا الذي كنت ألعنهم، وألعن تجاهلهم، وأنها كانت تقضي ساعات الصباح في مكتب مسؤول الحسابات، وأما بقية النهار وساعات المساء الأولى فتمضيه في حفلات الرقص التي ترتادها كل يوم .

تحركت فورا لإنقاذ المصنع، وفيما أقوم بإعادة تنظيم العمل، وترتيب مكتبي -الذي كان مكتبها- عثرت على علبة غريبة تحوي مسحوقا أسودا ذو رائحة نفاثة، تعرفت عليها بلقيس بأنها نفس المادة التي سببت لي العمى .

بدأت تتكشف الخفايا تباعا، وتضاء أمامي دهاليز معتمة كنت أسير فيها ضرير البصر والبصيرة، أدركت بأنه من السهل أن يكون الواحد منا مبصرا لكن من الصعب أن يكون بصيرا.
لم يفاجئني أنها سحبت مبالغ كبيرة أودعتها بإسمها في البنك، بقدر ما صدمتني رؤية مسؤول الحسابات حين استدعيته للمراجعة والمساءلة، كان الطفل نسخة مصغرة منه .

عبدالله عبدالإله باسلامه.
ذمار / اليمن .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى