ثروت أباظة - لا يهم

جلف غليظ النفس غليظ الجسم. . حقير ساقط الأصل ساقط التفكير. . ولكنه عظيم يجثو له من يراه، وينحني لمقدمة من يقدم عليه. . فهو غني واسع الغنى، وليس لمن يعرفونه عقل ذاكر يذكرهم ما كان عليه وما صار إليه. . هو غني، وهو ذو مكان وجاه، وهو يجرؤ فيمد إليه طرفا من عداوة. أو من يرمقه بنظرة لا ترضيه.

إن رأيته رأيت وجها كالحا تعاهدت قسمات الإجرام أن تتخذ منه مسكنا؛ وهي في هذا المسكن أو في هذا الوجه تنمو مع الزمن وتتكاثر، لا تترك البيت ولا تريم، تملأ النفس الحقيرة من الرائين رعبا وذا النفس الكبيرة احتقارا واشمئزازا. . . وما تلازم الرعب والحقارة في وجه قذر تلازمها في وجه ذلك الرجل. يعلو ذلك رأس خلا من الشعر حتى لا تكاد تبن جبهته من رأسه ولا أحب أن يثب من أنه أصيب بالصلع فإن تفكيره الإجرامي لم يكن من العمق بحيث يساقط الشعر كما يقول علماء الجلد من الأطباء. لم يكن صلعا ما بالرجل ولكنه مرض آخر أصابه وهو لم يزل بعد جرثومة لم تكبر لتصبح مرضاً. . وقد حاول بماله الدنس أن يتغلب على ما أروع الله في رأسه من شر. . كان المرض أشبه بالعنوان للكتاب المصادر من حكومة عادلة تحافظ على الآداب العامة هو يغطى رأسه بالطربوش إذا أصبح وبالأغطية الكثيفة إذا أمسى؛ ولكن الأغطية جميعاً عاجزة عن ستر ما يريد ستره.

هذا هو رأسه إن شئت أن تسمى هذا الشيء رأساً، ولا لك أن تعرف علام ركب هذا الرأس. . لنتجاوز العنق يبدو لي أنه لا يريد أن يبديه لعله يخفى بعض الشيء من رأسه الحقير، أيا كان الأمر ليس لهذا الشيء ولكن انبعاجاً ضخما شاء الله أن يكون جسماً فكان. والعجب أن هو الانبعاج يزداد في غير انتقاص وما يضنيه وصاحبه مجبول على الشر. . . إن ضايقه شخص قتله؛ وما ينقصه وصاحبه خلق وهو ضمير له.

تلك هي صورته اليوم فلندع القلم بقذف به ما وراء تلك السنين لندعه يقذف به إلى تلك الأيام التي كان لم يزل بها جرثومة صغيرة لم تصل بعد إلى تلك الخطورة التي صارت إليها. . . ماذا كان جربوع أجرب يلهث وراء حمار أبيه بعد أن خاب في كل شيء، ف زار الوالد قريباً له بقيت الجرثومة خارج المنزل لا تجسر الاقتراب إلا ساحبة المطية ثم تنطلق فلفها فكان الركب ليس والدا وكأن اللاهث ليس ولده. . وكان الأقارب ذاك يألفون منه ويزورون عنه بجانبهم إذا أتيح له أن يراه وكان من في طوره أولاد عمومته يكادون لا يعرفون من أمره شيئاً وعرفوا فهو لهم لا يصلح لشيء إلا يعدوا وراء الحمار بتشديد تخفيف كما تشأ كان الغلام أولاد العم أو من بني قرابته يعني هذا إذا عرفه فيخفيه ولا ينبس بطرف منه إلى أحد فإذا للجرثومة حظ سعيد وذكرت في مجلس لهم فالفكر والاستنكار والهزء الذي ليس مثله هزؤ ثم يتعجل أحدهم فينقل موضوع الحديث قبل أن يدخل غريب فينكشف من أمر أسرتهم ما يرجون له الستر. لقد كان منذ ذلك اليوم لصاً في ذكره مجلبة للعار. فليس أبشع من سارق على شبع. لقد كان ذكره مفسدة للخلق، فترى الأمهات إذا ما ذكره أمامهن أحد الخدم قد رفعن أيديهن إلى أفواهن حذرا من أن يسمع الولد الحديث فيفسد حلقة ويشذ عن طريقه. . كان يذكر إذا ذكر خفية فكأنه كلمة لا تقال أمام كبير خشية أن يظن بقائلها سوء الأدب.

كان كذلك. . ثم نمت الجرثومة كالداء يترك بغير علاج. . نمت فإذا هي المرض لا يشفيه تطيب. . نمت فأصبح اللص الصغير سفاكا لا قبل للمجتمع به. . . ومات أبوه قبل أن يعرف ما انضمت عليه ضلوع الابن من الشر الكبير. . . مات الأب فخلا الابن بالحمار واعتسف ما كان لأبيه من أبيه وجمع من حوليه المجرمين من كل ضعيف النفس جائع الشهوة يريد أن يحتمي بالسفاك الأكبر. . . وهكذا انقلب الحمار سيارة، وأصبحت تقاد له بعد أن كان يشتهي أن يقود.

ازداد المال لديه. وأصبح (بيكا) وهو الجربوع. واشهر من أمر اللص ما حاول أقرباؤه أن يخفوه؛ ولكن سرعان ما تبين الأقرباء أنهم جانبوا العدل في معاملتهم لبن عمهم. هاهو ذا اسمه يجري بينهم جريئاً لا أحد ينقل الحديث إلى غيره ولا أحد يرفع يده إلى فمه: لقد أصبح الخفاء صريحاً وجهر بما كان يهمس به: هاهو ذا أحدهم يقول (والله أنه لخفيف الظل! لم لا نذهب إليه نسلم ونهنئ بيته الجديد) ولم يكن المنزل جديداً ولكنهم ذهبوا ها هم أولاد في منزلة وها هو ذا يرحب بهم فرحاً أن قصد إليه من كان يزور عن لقائه، ولكن الأقرباء لم يجدوا أنفسهم منفردين بل وجدوا معهم البلاد وأعيانها من حكام وأقطاب باسم الله ما شاء الله! وغمز أحدهم الآخر (قم فعجل بالقهوة) فأجابه الآخر (وأنت معي قم فعجل بالطعام) وقام: وما لهما لا يقومان؟ لقد أصبح الفقير غنياً! أما كيف كان الغني فإنه لا يهم. . . لا يهم

ثروت أباظة


مجلة الرسالة - العدد 916
بتاريخ: 22 - 01 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى