د. أماني فؤاد - صفحة 224

هي الأقراص التي أعطيتني إياها، الأقراص المنومة التي كادت أن تتسبب في تَركِ كُرسيّك شاغرا أعلى المنصة في الجامعة الأوربية العريقة منذ شهور. عشر دقائق فقط هي ما استطعتُ الحصول عليه من يقظة نائمة. رأيت أعلى أحد الأرفف المصقولة فيما يشبه حجرة معمل إناءً به بضع ثمرات صفراء لا أعرف لها صنفا محددا، مغموسة في سائل شفاف، تتساقط قطرات منه أمام عيني، لكن الرف نظيف بلا أي أثر، لم أمد يدي لألتقط ثمرة رغم أصابعي التي تهيأت لالتقاط واحدة، على باقي الأرفف رأيت عظامي تتثنى كشريط فيلم فوتوغرافي يتلوى ويتألم، أتحسس جسدي لعله غادرني، فتنفذ يدي في فراغ بارد، أقبض على ردائي في هلع لعلني أجدني.

أتأذن باقتراح –

ربما سأعتذر عنه لاحقا- هل لك أن تفتح كتاب ابن سيرين، صفحة 224، دُوِّنَ فيها أن بإمكاننا أن نزيح كل هذا الألم جانبا، وأن نُسيّل المدن العريقة التي تجف جراء استباحتها، نوطّنها الذاكرة، ونُبقي على قبلاتنا التي تَوزَعت يوما فوق طُرقاتها المحترقة. تمهل لن نمحو الجسر الذي اقترنَّا فوقه، وغرفتي الكوخ الذي على حافة النهر، وكُتبنا وموسيقانا، يمكننا أن نكتب على الماء:” ليس بوسع المدن التي يولد فيها الحب أن تموت”.

في الصفحة ذاتها -لو دققت- زجوا بالأنهار إلى المعتقل، وحين أظهرت العصيان قيدوها بالسلاسل وكشفوا عن ساقيها، هي الأخرى تكسرت عظامها فوق الأرفف وبكت.

في منتصف الصفحة يمكنك أن تمد يدك، ليس لتتحسس غابات الجدران الباردة التي غادرناها، تلك التي تشتهي ظلالنا لتتحرك فوقها، ولا نباتات حديقتنا المعلقة التي كانت تحسبنا بَشرَاً فوق العادة، ولا التماثيل الصغيرة التي وقفنا يوما معا لنتأملها، ارفع يديك عن الأيام التي عنوانها السأم.

في الصفحة السابقة عند ابن سيرين زعقت بضع إوزّات بأن الحكم المطلق يُجهض أي مبادرة فردية، وأن برحم المرأة تتأبد سطوة الجهل المقدس. يومها ابتسمتَ قائلا إن الإوزات لا تحيا إلا بالأنهار العذبة، وفوق عذوبة أخرى لا أعرف مصدرها تألقت المدينة التي أعاد دفؤكِ صياغتها، فقررتُ أن الموت بجوارك حتما أكثر احتمالا.

عفوا، سيدي تمهل، فأنا لا أومن بتفسير الأحلام ولا بابن سيرين، لكن السائل الذي يقع من الكأس دون أن يترك أثرا على الرف المصقول يترك صدعا في الوجود.

بإمكاننا أن نزيح كل هذا القبح، أن ننظف آثار تلك الحمامة التي انطبعت على القائم الخشبي للفراش الذي شهد عشقنا يوما، ماتت أجنحتها مشرعة بعد أن جفت، لنوثق لحظة حضورنا فوق قسوة الميلشيات المسلحة التي فخخت الأرفف من كل جانب، فوق عظامي التي تتآكل بعد أن رأيتُ رؤوس الإوزات ملقاة على الأرفف.

أقراصك التي تركتها لي حطَّت على نافذة بيتك القديم، والثمرات الصفراء رؤوسها لا تشبه رؤوس الإوز ولا حبّات الكرز، هي أقرب لرصاصات أو فوّهات مدافع، لا.. ربما سيل من مفردات تنزُّ كراهية بلهاء.

الثمرات الصفراء لا تُسمن ولا تُغني من جوع، الثمرات أجنّة ماتت يوما في رحم أخضر، ودُفِنَت في الصفحة رقم 224.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى