البحري المصطفى - قصيدة الشعر الحر ليست أفقا لقصيدة النثر

قصيدة النثر التي أومن بها هي التي تخلق الصدمة البصرية ؛ حين يقف المتلقي حائرا بين كونها مجرد فقرات نثرية أو كونها شعرا بحيث تبدأ الحيرة في التلاشي شيئا فشيئا وهو يقرأ مستسلما لشعريتها التي تحقق هامشا كبيرا من الدهشة والجمال . الكتابة بالكتلة او الفقرة إيغال محسوب لإحداث الرجة البصرية الأولى ، إنها إحدى أهم عتبات قصيدة النثر التي تعزز نثريتها القادرة على تفجير " الجمركية " و الأجناسية الجامدة .
لكل مرحلة من مراحل تطور الشعرية العربية شكلها الخاص المعبر عن المرحلة . ولا يمكنني باي حال من الأحوال أن أفهم تطور الاشكال الشعرية دون فهم متطلبات كل مرحلة فنيا واجتماعيا ... الموشحات في الاندلس كانت مطلبا فنيا اقتضته المرحلة التاريخية ، فأنتجت شكلا شعريا فرضته الذائقة المجتمعية فرضا . ولذلك سيكون من المجحف أن أفهم قصيدة النثر بالركون إلى آليات اشتغال قصيدة الشعر الحر . أو أن اعتبر السياب مثلا أفقا للشعر عنده تقف الكتابة الشعرية . ففي المرحلة التي كان فيها الاحتفال جاريا بالمولود الجديد / قصيدة الشعر الحر كانت هناك أنهار من التغيير / قصيدة النثر تتهيأ لجرف آخر معقل للشعربة العربية التي مازالت وقتئذ تقيِّم الإبداع بمعايير خارجية كالوزن والقافية وبالتالي نسف مشروع الشعرية الشفاهية برمته . ولذلك كان مشروع قصيدة النثر ليس فقط نقلة شكلية في الكتابة وإنما كان في عمقه رجة قوية في الوعي الشعري وثورة على أنماط التفكير وذهنية النموذج التي تعتبر الشكل الشعري وما وصلت إليه قصيدة الشعر الحر مثالا يحتذى و سقفا لا يمكن تجاوزه . إن الحرب الضروس والمعارك الفنية التي دشنتها مجلة شعر حول تفجير ذهنية النموذج مازالت شاخصة حتى الآن وتفسر بوضوح صراع الذهنيات والإصرار الدوغمائي على فشل قصيدة النثر وانهيار مشروعها الشعري .
إن وجود مجموعة من الشعراء الكبار الذين تحملوا عبء الوصول بالمشروع الشعري الجديد إلى مديات واسعة وعميقة جدا خير دليل على تجذر قصيدة النثر الحقيقية . صحيح أن كثيرا من النصوص التي يراد لها أن تكون شعرا ليست في أحسن الأحوال إلا ترهات وتفاهات لا تصلح أن تكون حتى نثرا .
إن قصيدة النثر ماضية إلى حيث الشعر الحقيقي الذي يجيب عن سؤال المرحلة داخل صيرورة تطور الاشكال والذائقة وفقا لتطور الأنماط المجتمعية والسياسية والاقتصادية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى