جلاء الطيري - المجذوب..

ما الذى بيني وبينك أيها المجذوب ، الذى يرفُلُ في أسماله، ويتمتم بكلمات وإشارات أجهل كنهها؟!

ما الذي جعلك تقف هكذا متسمرا تسُدّ عليَّ باب الخروج؟!

تبتسم ابتسامتك الملغِزة!.

تنحَّ قليلا ولا تُلقِ بالاً لسرّى الدفين الذي فضحته عيناي، في هذا الصباح.

كل الأبواب التي تؤدي إلى الوصول صارت سهلة المنال .

تبتعد قليلاً دون اكتراث، تُخرجُ من حقيبتك المملوءة بأكياس فارغة وأشياء أخرى قصاصة ورق متهالكة تضعها في يدي، يغالبني الفضول؛ أقرؤها.

” لا ترحل من كونٍ إلى كونٍ كحمار الرّحى الذى يسيرُ والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه”

تُبقى يدك الأخرى قابضة على أصابعي وكف يدى ، يتطايرُ شعرك المهوش، الذي عُقدَ فى ضفائر طويلة ، بفعل ريح لا أعلم من أين هبّت ، للريح رائحةٌ تُشبه رائحة ثوب جدتي المعبّق برائحة عجين مختمر ، تحكي لي عن مخلوقات الله التي تسير فى الأرض . ” إنها رحمته المندسّة فى طيات ثيابهم” قالت لي ذلك عندما نفرتُ من محمود مجذوب القرية الذي يرتدي عشرة جلابيب فى قيظ الصيف ، ويلف رأسه الأصلع بشال من الصوف ، تخلع عنه أثوابه واحدا تلو الآخر، إلا من سترة مهترئة قد التصقت بمكمنٍ جعلني أتوارى بنظري بعيدا عنه، يستقبل جسده الشمس الغاربة، ويكاد من فرط بياضه يضىء ، يُشير إلى جدتي وينطق كلمته التي لا يُجيد سواها، تخرج جدتي طَسْتًا نحاسيا – لا تخرجه إلا له- وتصبُ عليه الماء المعطر بماء الورد، تُدلك جسده؛ يستنير وجهه

يصرخ في فزع :” ماي …. ماي…” .

تُهدئ جدتي من روعه، أراها تتحول لمجذوبة تتمم بكلمات فشلتُ في سماعها، تجفف جسده، تلبسه ملابسه المتسخة كما هي، قلت لجدتي: لماذا لا تُعطيه بعضا من ملابس جدي الكثيرة بدلا من تلك المتسخة؟! تضع يدها على فمي في إشارة منها بأن أصمت، تهمس : “لو كان عايز كان طلب” . كيف يطلب وهو لا يقول سوى كلمة مبهمة “ماي.. ماي..”؟! تردّ جدتي: أنا أفهمه.

ولأنني قادمة من فضاء التكنولوجيا ضحكت من فعلهما – هذا المعتوه وتلك التي تُحممه وتتغاضى عن مكمنه الخفي –

تَعَبُرُ على اعتراضي وكأنها لا تسمعني، وتواصل ما بدأت حتى تُنهى ما اعتادا عليه مطلع كل شهر.

يُخرجُ مجذوب القرية قطعة خبز يابسة يقتسمها وجدتي، تَربتُ على كتفه: “والنبي حاسس بي يا شيخ محمود”، تنفضها من التراب الذى علق بها وتحاول جاهدة مضغها، وما إن تبتلعها حتى تقول إنها تعافت من الألم الذى حول معدتها إلى قطعة نار.

ماتت جدتي وهى تتألم من النار المستعرة في جوفها بعد أن أخلف محمود موعده الشهري.

ماذا لو لم يُخلف محمود موعده؟ وأعطى لجدتي قطعة خبز جافة مثلما فعل في المرة السابقة، ربما خَفَّ الألم، ربما شُفيت جدتي، ربما لم تكن لتَمُت من داء المعدة، ربما …ربما.

أختي الكُبرى التي تعدّت الأربعين، ولم يطرق بابها طارق؛ لإعاقةٍ جعلت رجلها اليمنى أقصر من اليسرى جعلتها تحجلُ.

أسمع همسات النسوة كلما مرّت أمامهن :” أعوذ بالله دي نحس ، ربنا يكفينا شرها، عامله زي الغراب بتحجل برجل واحدة ” . كلما مرّت أمام دار إحداهن يُصاب زوجها بمكروه، لا أعلم إن كان صدفة أم صدق كلام النسوة.

أراها تبكى بحرقة كلما سمعت الزغاريد تنطلق من بيوت من هن أصغر منها بكثير، كنت أدعو الله أن يمر محمود أمام بيتنا فتحممه أختي، ويعطيها من بركته، ربما رزقت بمن يُكفكف دمعها .

استجاب الله لدعواتي، وطرق محمود باب البيت ، فعلت أختي الكبرى كفعلِ جدتي، خلعت عنه ملابسه ولكنها لم تُبقِ على سترة تخبِّئ مكمنه، بالغت في دعكها بالصابون المعطر، كممسوس من الجن انتفضت فجأة، تهدّج صوتها وهى تأمرني أن أخرج سريعا لشراء بعض الصابون فقد انبرت الصابونة مخلفة رغوات كثيرة ،فاضت الرغوة حتى خرجت من حواف الطَّسْت، تبدلت ملامح المجذوب وانطفأ بياض وجهه، وارتدَّ على أختي التي استنار وجهها.

تقاربت زيارات المجذوب حتى صارت يومية، وأختي تمارس معه نفس الطقس، ودائما ينفذ الصابون المعطر . كانت في كل مرة تقول لى: خذي وقتك، ولا داعىَ للعجلة .

أعود ويدي محملة بالصابون، فلا أجد المجذوب، وأجد أختي مستلقية على السرير، وقد تخلى عنها وجهها الحسير، ورويدًا رويدًا لم تعد تهتم لكلام النسوة. بعد شهور صارت أختي تشتكى من ألم في بطنها، وتفرغ كل ما تأكله. عاد إليها وجهها الحزين، ولم تعد تستجيب لطرقات المجذوب، ولا لندائه المستعر الذى يُشبه عواء كلب جائع: ” ماي …ماي…. ماي..”

وفى ليلة صحوت على صوت ارتطام، وجدتها أسفل البيت، وقد انشق بطنها عن مخلوق إحدى رجليه قصيرة سمعته يصرخ :

مااااي…. مااااي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى