عبد الرحيم سليلي - أبيض وأسود

من جوف الظلام الغليظ المنتشر داخل الكوخ جاءه صوتها مختلطا بالقعقعة التي تحدثها شآبيب المطر على خرق الزنك المتهالكة:

- تسمعه؟

رد بصوت خافت بالكاد استطاعت استخلاصه من الضجة التي تحدثها سياط الماء فوق السقف:

- نعم، أسمعه في انبثاقه الأول من ضرع الغيمة: هو هو، لم يتغير منذ ثمانين سنة! سمعته أول مرة وأنا طفل في العاشرة من عمري...

ضحك في سره ثم أردف:

- ها أنا الآن صرت شيخا عليلا تعطلت كل قواه، لا أستطيع مد يدي لأقرص وشم الهلال على ذقنك، بينما لا يزال هو في صباه؛ يعبر المسافة بين السماء والأرض دون أن يتهدج صوته، أو يتغير إيقاع نبضه!

سحب ملاءة الصوف قليلا لتغطي كتفيه النحيلتين، فاكتشف أن قدميه صارتا عاريتين؛ أخبرته لفحة البرد القاسية بذلك؛ فحاول سحب ركبتيه نحو صدره والانكماش قليلا ليصبح له حجم تسعه الخرقة المرقعة. سمعها تبسمل، وتطلب الرحمة من رب تردد بلسانها إنها لا تراه، لكنها تشعر به يملأ قلبها كل حين. قالت بيقين:

- سننجو، سننجو كما في المرات السابقة... الرب لن ينسانا، الرب لا ينسى عاجزا أبدا.

- في المرات السابقة أنقذتنا جارتنا عائشة المزابية...، وقبلها سعدون الكناوي، والآن....، لا أظن أن أحدا يعلم بحالنا.

- هذه المرة سننجو أيضا، لا تخف...

- من قال إنني خائف...

أراد أن يخبرها أنه مرتبك قليلا؛ لأنه على يقين أن لا أحد يعلم بمحاصرة الماء لكوخهما في هذا الشعب المهجور، لكنه عدل عن الأمر، واكتفى بلوم والدها على اختيار هذا المكان المنعزل سكنا لعائلته.

لا يمكن للمرء أن يعزل نفسه عن الناس مهما كانت أسبابه. يعلم أن قوات "لاليجو" في ذلك العام أذلت الناس ونكلت بهم، وأنهم عندما زاروا خيمة أبيها الذي كان يشتغل خماسا في عزيب الشيخ العربي، لم يجدوا عندهم نحاسا ولا فضة؛ فأشعلوا حقل الشعير المحيط بخيمتهم. كانت السنابل الصفراء قد هيأت أعناقها لمناجل الحصادين، واستسلمت للريح الرخوة تؤرجحها يمينا وشمالا، ملوحة لشوارد الطير في السماء بأرزاقها. احترق كل شيء في ظرف ساعة من الزمن حتى خيمة الشعر احترقت، أما هم فقد أنقذهم جرن الحبوب الفارغ اختبؤوا فيه حتى استحال الزرع والخيمة رمادا، فنجوا من حكم الموت الذي قضى به عسكر فرنسا وعملاؤه يومها. لكن السيل ليس كعسكر المحتل وعملائه؛ السيل من جند الله؛ لذا لا يمكن أن تحتال عليه لتنجو.

- كيف هو وضع الماء في الخارج؟

سألها محاولا ألا يظهر خوفه، فردت:

- قبل الغروب كان علو الماء قد ارتفع مقدار قدم وبضعة أصابع...

- هذا كثير!

- لقد اختفت الدكة التي كنت تجلس عليها أنت ومسعود تحت مياه السيل.

- مسعود...

قالها بحرقة، فتفاعلت معه بتنهيدة، وقالت:

- كانت عائشة المزابية تقول لي: " الولد الوحيد والعقم يخرجان من بطن واحدة".

- هل تقصدين أننا في حكم العقيمين لأننا لم ننجب غير مسعود؟

- كنت تقول لي إننا سنجوع إن جئتنا بطفل آخر، فأقفلت رحمي...

قالتها بحزن غامر، فرد:

- لم يكن الجوع هو السبب...

- وما السبب؟

- اتركيها في القلب، رحم الله أباك العربي ابن الفقيه سي قاسم، اتركيها يا فاطنة.

- أنت لا تقول شيئا، طوال حياتك وأنت صامت...، هذا عيب يا سي الرافا، هذا عيب...، حتى الفرنسيس الملاعين كنت الوحيد الذي لم يقل لهم إنكم تسرقون أرضنا! لا تقل لي لم تكن لنا أرض؛ فوالدي العربي بن قاسم كان يقول لي إننا نملك كل شبر يحتله الفرنسيس، وسنسترجعه يوما بدمائنا؛ فنصبح ملاكا، نبذر ونزرع ونحصد غلالا نضعها في أجران تخصنا.

- ها قد خرج الفرنسيس، أين هي الأرض؟

- الأرض عادت، لكن الأمور لم تسر كما ينبغي...

- بالعودة إلى الولد، لونه الأسود هو ما جعلني لا أرغب في المزيد من الأولاد...

- "وما لو الأسود"؟ خير وبركة، أنسيت أن نصف الدنيا أسود.

معها حق؛ نصف الدنيا أسود! كيف لم أنتبه إلى أن الليل أخذ نصفا من عمري، ومن أنساني أنه كان هو النصف الأسعد الذي لم أشق فيه، ولم أقف كثيرا أمام عجزي عن العيش مثل أيها الناس؟ آه...، معها حق لولا سواد الليل لكنت الآن أنظر في هلع إلى نهايتي وهي تقترب كلما تسلق الماء القادم من وهاد بعيدة الجدران الطينية لكوخنا الوحيد في هذا الشعب المعزول.

- ما لك صمت؟

- لم أصمت أنا أكلم روحي.

- قلت إن الطفل ولد أسود...! العرق دساس، أنسيت؟

- في تاريخ البلدة والعائلة لم يولد طفل أسود ولا حتى أسمر...، حتى إن الناس كانوا يتندّرون قائلين إن قبيلتنا من بقايا البرتقيز.

- .........

- الأسود الوحيد الذي عاش هنا كان سعدون الكناوي، العطار صاحب البغلة الشقراء.

- كان أبيض القلب.

- الوحيد الذي كان يتفضل علينا بصاع شعير ورطل سكر أيام المجاعة الكبرى، التي سماها الناس "بوهيوف".

- عليه الرحمة.

- في آخر زيارة للولد أذهلني الشبه الكبير بينهما.

- أوف دعنا من هذا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ثم كيف استطعت إدراك الشبه؟ كان العمى الأزرق ساعتها قد كف بصرك!

لم تلمه هذه المرة على رفضه الذهاب مع الولد إلى تلك المدينة الغريبة، لكنه اعتقد للحظة أن الذهاب معه كان خيارهما الأنسب ربما. حدث نفسه: "لكن الأمر كان مستحيلا، الولد كان يعيش مع زوجته التي لم نرها قط في كوخ قال إن عرضه متران وطوله ثلاثة أمتار وشبران"! لا، لا، لا، هو لم يقل ذلك أبدا، سعدون العطار هو من زاره وأخبرهم عن حاله، قال إن المرأة تكبره بعشرين سنة، ورثت الكوخ وعنزة بيضاء عن أمها العرافة، وساق إليها النصيب الولد مسعود فكانت السعادة لها والحرج له، قالها سعدون الكناوي بحرقة كأنه يندب حظ ولد من أولاده.

سمع الماء يضرب جدران الكوخ الخارجية قريبا من النافذة الصغيرة، فارتج قلبه للحظة، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه، تذكر العمر الذي عاش نصفه في شقاء تحت الشمس، والنصف الآخر قضاه نائما في حضن المبروكة. هاله أنه مذ وعى وجدها معه، وأنه لا يذكر كيف صارت زوجته. قالت له مرة عندما أخبرها أنه لا يعلم كيف تزوجا، إن أمه وجدتهما ملتحمين في الفراش فأحضرت احماد الفقيه وزغردت ثلاثا، وأعلنتهما زوجا وزوجة. قالت إن المرأة الكريمة أرادت أن تنحر إحدى نعاجها الثلاث لكن الفقيه أقسم عليها ألا تفعل وتهبها وقفا للجامع ففعلت، وحرمتهما من تذوق اللحم في الشهر الأول لزواجهما.

أراد أن يخبرها أنهما قضيا أكثر من عشرين سنة معا ولم يرزقا بطفل، فقدر أنها ستغضبه بادعاء أن الدواء الذي جلبه سعدون العطار من أرض أجداده كان فيه الفرج. أمه قبل أن تموت كان لها رأي مخالف في الموضوع.. لم ينس أنها زمجرت في وجهه غاضبة ذات صباح وهو يخبرها أن دواء سعدون الكناوي يزيل العقم من أرحام النساء، قالت له باحتقار:

- عيبك يا ولدي أنك أبله.

تساءل غاضبا:

- أنت وحدك من يقول إنني بلا عقل.

- ألا ترى أن ولدك يشبه الكناوي.

- أعرف، لكنه هو الذي جلب عشبة الخصوبة لفاطنة.

- وهل كانت العشبة تنمو على جسده، ليأتي الولد صورة منه.

- أووف يا أمي الرجل يكرمنا، لولاه لأكلنا الجوع.

قطعت فرقعة الرعد استغراقه في تلك الذكريات البعيدة، فتململ في مكانه متحاشيا أن يسمح لجسده بالتمدد خارج خرقة الغطاء، سألها بفتور:

- ألا تزالين مستيقظة...

- نم، إن الفجر يوشك أن يغطي وجه الأرض

- وجه الأرض غطاه الماء، لذا قد لا يأتي الفجر...

تطلع جهة النافذة، كان يعلم أن الماء بدأ يتسرب منها إلى الداخل بوثيرة متصاعدة، ابتسم وفك انكماش جسده ثم قال:

- خيرا فعلنا حينما لم نذهب مع الولد.

خريبكة 28 غشت 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى