د. جورج سلوم - أحلام طبيب.. وأيّ طبيب !

الصباح ما يزال بعيداً في هذا الشتاء القاسي ، أو هكذا يتمنّى الدكتور حيّان أن يكونْ..

يريده ليلاً طويلاً يظلّ فيه قابعاً في الفراش بعيداً عن الذلّ والانكسار الذي يلقاه في عمله كطبيب

ويسخرمن نفسه – كلما تذكّر كلمات المرحومة أمّه – تعنُّ على باله وتجرحه عندما كانت تقول وتردّد:

-أتمنّى لو تطول بيَ السنون لأراك طبيباً (قدّ الدنيا)!

آهٍ ..وأمّه تخرّجت من الحياة قبل أن يتخرّج من الجامعة ، لذا استبدل صورة المرحومة والدته المذيّلة بشريطٍ أسود بشهادة الطب لكي لا يشتري إطاراً جديداً لها ، أما ورقة الترخيص للعمل فكانت مُلصَقة على الجدار بلاصقٍ طبّي وكفاها فخراً .

المطر ينهمرُ بغزارةٍ في هذا الليل ، فقطراته الضخمة ترتطم بزجاج النافذة مطلقة موسيقا غريبة ، والريحُ الثائرة قد أطلقتِ العنان لصفيرها بينما اختفى القمر الذي أُجهِضَ في الليلة الماضية فتحوّل من بدرٍ إلى هلال ..

لا ..لا ترنّ يا جرس الهاتف ، لن أستطيع أن أذهب إلى مريضٍ في بيته ، فأصلَ إليه مبللاً ، ويتصبب الماء من أكمامي بالرغم من المظلّة التي أحملها، وأخجل – أنا - منه ومن مرافقيه عندما تصطكّ أسناني المرتجفة من البرد ، وأخجل من يديّ الباردتين ، فيقولون ، لا بأس اقترب من المدفأة قليلاً يا دكتور ، ويعطونني منديلاً أمسح نظارتي المبللة أيضاً ..

وأخجل بعدها من جيبه الفارغ ، وبيته الفقير ، ونظرته المنكسرة فلا آخذَ منه قرشاً ، ويلحقونني بكلمات الشكر والامتنان والدّعاء بأنْ يسبغَ الله بنِعَمِه عليّ ويأخذ بيدي إلى ما فيه خير الأمة العربية جمعاء .

ما هكذا تورد الإبل ، ولم أشاهد يوماً بحياتي طبيباً ، إلا كامل الأناقة ، دافئاً، بحذائه اللماع ، وينزل من سيّارته المكيّفة عزيزاً !

وجاء الصباحُ كجيشٍ هادر يمتطي صهوة الرياح تقوده الشمس التي تحملُ راية ً حمراء ، وترتفع في السماء مترنّحةً من ليل الأمس البارد.....

كانت تشقّ طريقها خلف الغيوم الداكنة فتصطبغ أطرافها بلونٍ دمويّ ، وكأنّها قادمة من حربٍ ضروسٍ جرت في الفضاء البعيد..

الغيوم تلملمُ حُطامها ، ثم تلوي أعناقها وتتهيّأ للرّحيل ، بينما كان الدكتور حيّان يلوي عنقه مطأطئاً ، ويغلق باب البيت خلفه ويخرج بعد أن لوّح بيده لزوجته المتوارية في المطبخ فلا تردّ ..

لا سلام ولا كلام بينهما منذ أيام ، ولا حربَ مُعلنة في البيت لكنّه نوعٌ من الهدنة والوجوم ..

لا بأس من ذلك وقد اعتادا على حالة اللاحرب واللاسلم ، فليتصنّع السعادة أمام الآخرين على الأقلّ ، وأيّ سعادة ..

كان يصفّر في الطريق كالمشاة اللامبالين ، ويترنّم بأغنيةٍ عذبة ، كلماتُها الرقيقة تحمله إلى عالمٍ روحانيّ جميل ، طالما تمنّى أن يهربَ إليه ، فيرسم على شفتيه ابتسامة ، ويرفع يده لأحد المارة محيّياً ، ليأتيه ذلك الجواب كصفعةٍ مؤلمة :

- ألم تشترِ سيارةً بعدُ يا دكتور ، أما زلتَ تمشي كباقي الناس ؟؟



ولا يستطيع أيُّ شخصٍ عاديّ أن يتخيّل كيف يكون الطبيب فقيراً ، ذلك مستحيل ، ولا سيما بعد سنواتٍ من التخرّج ..

وحتى زوجته لا تفهم لماذا يكون زوجها هكذا ، ليس كباقي رفاقه الذين سبقوه مادياً بأشواط ، أولئك هم الأطباء المثاليون ، أصلاً يختار الأهل مهنة الطب لابنهم ليحلّق مادياً ، ويبذرون الكثير ، هه هه ، وما من حصاد !

لماذا ؟ يا وجه الفقر ؟

زوجها قليل الحيلة ، وقليل الحركة ، وليس غبياً أو جاهلاً طبيّاً ، وكم حاولَتْ مراراً وتكراراً أن تفهِمَه أنَّ الإنسانية في الطب لا تعني أن تعمل بدون أجر ، يضحكون عليك عندما يسمّونك أبو الفقراء ، فدع الفقراء يطعمونك ويلبسونك ويسترون خجل أولادك بين أترابهم في العيد !

دعْ صاحب العيادة ومالكها يتنازل عن قرشٍ من أجرتها الشهرية ، أيها المستأجر ، ورفاقك صاروا ملاكاً للعمارات . دعه يخفف قليلاً من أجرة بيتك أو عيادتك ، أنت يا مَن تعالجه وتعالج ذويه وتعطيهم الدواء مجاناً !

امشِ إذن على قدميك ما شئت ، وتقافز فوق برك الوحل ..

ولمّع حذاءك آلاف المرات ، فهو حذاءُ طبيب ، ويجب أن يكون نظيفاً كوجهه ، احمل أكياس الخضار حتى لتكلّ سواعدك ، فقط فليساعدك أحدٌ ممّن تكتب لهم الوصفات يومياً في السوق وفي عقر دكاكينهم ، أو ليعطِكَ أحدٌ موزة مجّانية تستلذّ بها ، بل على العكس من ذلك ، فالسعر لك سعرٌ خاص ، عالٍ ، وأيُّ سعر ..

ويتناسب مع كونك طبيباً ، وأيَّ طبيب .

سافر يا أخي إلى الخارج كرفاقك ، غيّر مكان عيادتك ، تحرّك ، تقلّب على وضعك المزري ، أمّا أن تعيش على راتب الحكومة فقط ، فدع الحكومة تعاملك كطبيبٍ إذن !..

وتلفّتت حولها خائفة عندما قالت ذلك ، كانت تريد أن تضيف وأيّ حكومة ؟ .. لكنها ابتلعتها ابتلاعاً ، وأيّ ابتلاع !

وتضيف الزوجة :

والله أخجل عندما أقف في واجهات محلات الألبسة النسائية ، وأتخيّل معطف الفرو يكسوني ، وأقف جامدة وأحلُمُ به ، حتى يوقظني صاحب المحل من حلمي بقوله (تفضّلي إلى الداخل ) ، فأتذرّع بضيق الوقت ، وأعِدُهُ بأنني سآتي لا محالة مع زوجي ..هه هه ، وأيّ زوج !

والله صرت أخجل من اسمك ومن مهنتك ، أنا التي ظننت وأهلي أنّ كنزاً قد فُتِح لي عندما تقدّمْتَ لخطبتي ، ورفيقاتي أكلتهم الغيرة والحسد عندما أطلقوا عليَّ في قريتي لقب (زوجة الدكتور ) ..وأيّ دكتور !



عاد إلى العيادة وهدوئها ، وجلس إلى تموّجات الفكر وصخبه ، لماذا يكون الاعتقاد السائد في بلدنا بأنّ الطبيب الناجح هو الغنيّ ؟..أليسَ الطبُّ خدمة إنسانية ؟..لماذا لا يكون مقياس نجاحه هو علمه وأخلاقه ورحمته وحكمته ؟ .. أما كان الطبيب يُسمَّى حكيماً ؟..وأيّ حكيم !

ولماذا يتهافتُ المرضى على مَن ازدحمت عيادته ؟ فيكشف على مريضه بدقيقة ، ويتعالى على شكواهم ، بل ويطردهم كالذباب ، ولكنهم يعودون إليه ..

قد يكون السبب أنهم يشبهون القطيع ، وتربّوا على الوقوف في الطوابير للحصول على مادة مقننة ، ويتركون من كانت عيادته فارغة ويتفرّغ للتمحيص بأمراضهم ، يهجرونه ، مع أنه يبتسم لهم ويرحّب بهم ، فيهربون !

ومن غلا سعره كانت بضاعته غالية ..

وقد تكون نظرتهم مُصيبة ، وتلك هي المصيبة ..

فهو أيضاً إن اشترى شيئاً سيختار الأغلى لأنه سيكون الأفضل ، ولن يشتري بضاعة معروضة على الرصيف بربع الثمن من بائعٍ فقيرٍ مهلهلةٍ ثيابُه إلا من باب الصدَقة .

لو كان طبيباً عليماً للمع نجمه واشتهر وانكبّت الناس عليه ، تلك علاقة جدلية فيها الكثير من المنطق !

لكن من ابتدأ حياته من تحت الصفر غير الذي كانت طرقه معبّدة مسبقاً ، والحظ والظروف والرياح لا تتوافق مع أشرعتك كما يبدو ..

دعك في حرمانك إذن ..

الحرمانُ الذي يعاني منه تحوّلَ إلى غادةٍ هيفاء خرجت من البحر لتوّها فنظر إليها المحرومون بشبق ، وما أكثرهم ..

المحرومون المطروحون على الشاطئ وينتظرون ...

عيونهم الدّبقة أكلها الذباب، لا بأس عليكم فاملؤوا ساعات الانتظار بالاستغفار ، وأيّ استغفار ..

وإن لم تطالوا الحسناء في دنياكم فنصيبكم في الجنة بين أحضان الحواري ينتظرْنَكم ، ولو بعد حين .

وعلى مرأى من الجميع تنزع الهيفاء ثيابَها قطعةً قطعة عن جسدها المرمريّ ، فيزول البؤس ، ويتلاشى كالزّبد المحمول على أطراف الأمواج المتكدّسة على الشاطئ منذ سنين....

فتتحقّق الآمال المُحبَطة وينقلبُ البحر مدينة تتحقّق فيها كلّ الرّغبات....

فتمتلئ العيادة بالمراجعين، وتحارُ الممرضة كيف ترتّبهم بالدَّور ، أحسَب الطول أم العمر أم الجنس....

ويسمع الدكتور حيّان الضجيج في غرفة الانتظار ، فيسترخي على مقعده الوثير ويقرع الجرس باستخفاف ، وأيّ استخفاف:

- أدخلي الحالات الصعبة أو المستعجلة منهم ، وأما الحالات الباردة فسجّليها على الدور ، أو حوّليها لطبيبٍ آخر يسترزق منها ويأكل خبزاً ..

- يا دكتور ، أصبح الدَّور عندك لستة أشهر قادمة !

يضحكْ:

- لا بأسْ ، لا بأس ، أدخليهم إذن بالجملة ، لقد سئمتُ بالفعل هذا الزّحام ، وكأنه لا يوجد طبيبٌ غيري في هذا البلد ..

اذهبوا عني أيها المرضى المتزاحمون فقد قرفت رائحتكم وعرقكم ومللت سماع أنينكم ، اتركوا لي الحالات الدّسمة ، انتقوا ليَ المرضى من علية القوم فقط ، أو ممّن تورّمت جيوبهم لأستأصل محتوياتها جراحياً .. وابعثوا بالمرضى الدراويش لدراويش الأطباء ، فالأطباء مقامات ودرجات وطبقات ، كالمجتمع الذي نعيش ، ولكلِّ طبقةٍ خاصّتها .

وقد تطول أحلامه ، ويسعد بها !

مساء ً ، يعود إلى بيته ، يفتح الباب ، الجيوب منتفخة ، زوجته تنتظره بثياب السهرة – كعادتها اليومية – وتتمتم بابتسامتها العريضة :

- في أي مطعمٍ سنتعشى اليوم ؟؟

وفي المطعم الراقي ، يتراكض المضيفون والخدم حول مائدة الدكتور حيّان وبين يديه ، ولا عجبَ في ذلك فالإكراميّات التي يدفعها لأحدهم تعادل راتبَ موظّفٍ حكوميّ لشهر ٍ كامل.

ويتكلّم الدكتور حيّان على المائدة فيستمعونْ ، ويروي قصة عن معجزاته الطبية الخارقة فيُعجَبون ، ويحكي طرفة سخيفة فيضحكونْ ، ويقفْ فيقف الجميع...

زوجته ترمُقه بإعجاب كنجمٍ من نجوم المجتمع ، وتشكر ربّها على حظها الجميل بالزواج من طبيبْ ، وأيّ طبيب !



ذلك الحلم كان جميلاً ونهايته سعيدة كأيّ فيلم ٍ عربي ، وفي كلّ ليلة يصوغُه الدكتور حيّان بالطريقة التي تريحه وتبعثُ الدفءَ في أوصاله.

لكنْ وبالرّغم من كلّ ذلك ، كان البردُ قاسيا ً هذا الشتاء ، كأيّ شتاء.. والعيادةُ باردةٌ ومقفرة ، ومرضها مستعصٍ على العلاج ، وأي علاج..

وما تزال زوجته تستقبله بوجومٍ وبرود في كل يوم ، وما تزال تلعنُ تلك الساعة التي تزوّجت فيها من طبيبْ ...وأيّ طبيب !! .

** ** ** **

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى