الطيب طهوري - مقبرة الحجارة

إلى فنان الحجارة السوري نزار علي بدر

لا حياة في هذه البلاد إلا للموت..لا وجود إلا للقبور..هكذا قال متألما وسار يذرع حقله الطويل الذي بنى فيه منزله الصغير الذي لا منزل له سواه..
في مكان قصي من ذاك الحقل نصب لوحته( مقبرة الحجارة)..
ما إن يسمع آذان العصر حتى يسرع إلى كوم الحجارة خلف منزله..يختار حجرا أو حجرة..هذه جثة اليوم، يقول..يختار ثلاثة أحجار أوأربعة أو أكثر، أنتم من سيحمل نعش الميت، يوجه إليهم كلامه ..مجموعة أحجار أخرى،أنتم من سيسير خلف النعش..
يضع الجثة في جيبه اليسار..في الصندوق الخشبي يضع حاملي النعش والسائرين خلفه..يحمل الصندوق بيده اليمنى ويسير..
يحفر القبر أولا..ينصب الأحجار الثلاثة أو الأربعة أو الأكثر..يضع الجثة فوقها..في الوراء وعلى بعد سنتيمات قليلة ينصب حجارة السائرين خلف النعش..يقف..يؤبن الميت الحجر أو الميتة الحجرة.. تحمَّل أوتحملت كل قساوة برد الشتاء..كل جهنم الصيف..حمى أو حمت الخنافس ..استظلت به أو بها بعض العصافير أو بعض الزواحف..الرحمة لروحه أو روحها..يقرأ الفاتحة..يحمل الجثة.. يضعها في قبرها..يهيل التراب عليها باكيا..يجعل من بعض الحجارة الصغيرة الشواهد..يفتح كفيه..يقرأ الفاتحة أحيانا..أحيانا أخرى يرفع حجرين أو حجرتين،،يضربهما ببعضهما لبضع ثوان..ثم..يعيد الحجارة إلى صندوقها الخشبي..يحمل الصندوق ويقفل راجعا بخطاه الثقيلة..هكذا كان دأبه كل يوم ..
* **
هذه المرة اختار حجرة ..ستكونين ميِّتة اليوم، قال لها..أربعة أحجار،أنتم حاملو نعشها..مجموعة أحجار أخر، أنتم من سيسير خلف النعش..و..
فوجئ..لن أموت، قالت الحجرة..ما زلت أحب الحياة..اختر واحدة أخرى، أضافت.. لن نحمل جثة الميتة أو الميت، صارت الموت لا تفارقنا أبدا..كل يوم ميت أو ميتة..كفانا موتا، قالت الأحجار الأربعة..لن نسير خلف النعش، قالت الأحجار الأخرى بحدة ..
ضرب فنان الحجارة كفه اليسرى بكفه اليمنى..جلس..وضع رأسه بين ركبتيه ..سمعت الحجارة نحيبه..نظرت إلى بعضها البعض حائرة حزينة..تقدمت متتابعة إلى جسده ..حجرا فوق حجر..حجرة فوق أخرى راحت ترتقي جسده وتحضنه..كل جسده صار حجارة..أحجارا فوق أحجار..حجرات فوق حجرات..كانت السماء لحظتها تبكي بغزارتها..بعد دقائق راحت الأحجار والحجرات تنزل متتابعة..و..
فوجئت هي الأخرى بالجسد ينهار على الأرض..
بابا، بابا،نادت صغرى بنات الفنان..لم تسمع صوته..
كررت: بابا بابا بصوت مرتفع أكثر..ولا صوت له..تقدمت..حركت الجسد: بابا بابا..لا صوت سمعت..ولا حركة رأت..
ولولت الأم زوجته..أبوك مات، قالت لصغرى بناتها..
* **
وجدوا في جيبه ورقة بيضاء ..ادفنوني في مقبرة الحجارة، كانت وصيته..
بجانب قبور الحجارة حفروا قبره..وضعوه في القبر وأهالوا التراب عليه وعادوا حزانى تائهين..
تحرك كوم الحجارة وقد عادوا..صفين شكل..حجرا وراء حجر..حجرة خلف أختها..في اتجاه مقبرتهم ساروا جميعا..كل حجر حفر قبره باكيا..كل حجرة حفرت قبرها نائحة..كل حجر أهال التراب على قبره واندس عميقا فيه..كل حجرة أهالت التراب على قبرها واندست في عمقه..
* **
في الغد زاروه..شجرة ورد كان قبره..أزهارا قزحية كانت قبور الأحجار والحجرات..السماء التي كانت زرقاء قبل لحظات راحت تتغيم ..والريح التي كانت بعيدة بسرعة صارت هنا شديدة القوة..
في الغيم ذاك أبرقت شرقا: هذا قبر أبي ذر الغفاري..أبرقت من جديد: هذا قبر الحلاج..البرق الثالث كان:هذا قبر غيلان الدمشقي ..الرابع: هذا قبر حسين مروة..

أبرقت غربا: هذا قبر ابن رشد..أبرقت ثانية:هذا قبر محمد بوضياف..ثالثة: هذا قبر عبدالقادر علولة..

وكان أنين الريح رمالا هوجاء تأتي من كل الجهات..
***
أنا الذي كنت أرى طأطأت رأسي وبكيت علي.. ومشيت نحوي لابسا بياضي الذي مال إلى اصفراره حزينا حزينا..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى