كرة القدم يوسف الشايب - الروائي الإيطالي نيقولا بوتيغليري.. ثلاث مباريات في الذاكرة!

في رحلة "النَّبش في الذكريات"، نرى الكاتب والروائي الإيطالي نيقولا بوتيغليري، يحمل أمتعته نحو ما وصفه بـ"اللحظات الثلاث الأجمل في تاريخ كرة القدم الإيطالية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. ثلاث لحظات أساسية في المخيال الجمعي الوطني.. ثلاث مباريات شاهدتها، مصادفةً، وأنا واقفٌ على قدميّ".

في مقاله الذي ضمَّه كتاب "سحر كرة القدم: أدباء من الشرق والغرب يحكون عن الشغف باللعبة الأكثر بهجة"، إعداد وتحرير معن البياري، وصدر حديثاً عن "العربي الجديد" (فضاءات ميديا)، كانت "اللحظة الأولى"، حسب بوتيغليري، هي تلك "المباراة التي دارت يوم 17 حزيران (يونيو) 1970، في ملعب أزتيكا في مكسيكو سيتي، ما بين إيطاليا وألمانيا الغربية، حين فازتْ إيطاليا بأربعة أهداف مقابل ثلاثة لألمانيا.. كنت أبلغ 24 عاماً، وكان أبناء جيلي يسمون تلك المباراة (مباراة القرن)".

"كان عرض المباراة مساءً، أنا وأندريا وحدنا. وبفعل سوء البث التلفزيوني، عمدنا إلى وضع التلفاز في الشرفة، معلقاً على دعامة من الخشب، وبقينا واقفين نتابع اللقطات التي تصل إلينا من الجانب الآخر من العالم، أذكر صدى صراخ المدينة فوق أسطح البيوت، وهي تختلط بتعليق المعلق ناندو مارتيليني.. انتابني شعور بالدّوار جعلني أرى العالم يدخل في بُعْدٍ آخر: شابّان تحت سماء روما، والمدينة بأكملها أصبحت أشبه بملعب عظيم، وتلك المباراة التي تخاض على مسافة عشرة آلاف كيلو متر. كانت تلك معجزات الكرة التي أطلق عليها ذلك العام "تيلستار"، احتفاء بالقمر الاصطناعي للاتصالات المدنية الذي أطلق في الفضاء، وكان شبيهاً بالكرة. كان صوت المعلِّق يشكِّل حدوداً جديدة للعالم بأكمله. كنت إيطاليّاً، ولكنني كنت أيضاً شقيقاً لكل من يؤمن برياضة كرة القدم.. كانت تلك عولمة البهجة، شعورٌ ينتابني في كل مرّة أشاهد فيها الألعاب الأولمبية أو بطولة كأس العالم لكرة القدم".

اللحظة البهيجة الثَّانية، على حد تعبير الكاتب والروائي الإيطالي، كانتْ في ملعب برنابيو في مدريد، "كانت المباراة النِّهائيَّة ما بين إيطاليا وألمانيا الغربية انتهت بنتيجة 3 مقابل 1 لصالح إيطاليا.. كان الفائزون في تلك المباراة ثلاثة: رئيس الجمهورية ساندرو برتيني، ومدرب المنتخب إينزو بيرزوت، وكلاهما مدخن غليون شَرِه، أما الفائز الثالث فكان البلد بأكمله".

"إنكم لا تدركون ما صنعتموه من أجل بلدكم"، قال برتيني. وكان رئيس الجمهورية يقصد، وفق ما كتبه بوتيغليري، أن ذلك الفوز قد وضع حدّاً "لسنين الرصاص"، وصار التجمع في الساحات من أجل الاحتفال، لا من أجل إحياء ذكرى القتلى، كما حصل مع رئيس الوزراء آلدو مورو الذي أعدمته "الألوية الحمراء" في 9 أيار (مايو) 1978.

صرخة تارديلي، بعد الهدف الذي سجَّله، بينما يركض وسط الملعب رافعاً قبضتيه، أصبحت أيقونة لكرة القدم الوطنية، وكانت صرخة رئيس الجمهورية البهيجة في وجه ملك إسبانيا خوان كارلوس، إثر هدف الفوز الذي سجَّله آلتوبيلي، تعني أن مؤسسات الدولة، بدءاً من تلك اللحظة، ستلعب دوراً بارزاً في توثيق الارتباط بين الأمة وكرة القدم. وقد تكرَّر هذا الأمر بعد كل فوز، حتى بطولة أمم أوروبا في العام 2021 التي فازت بها إيطاليا على إنجلترا في ويمبلدون.. يا للذكريات البعيدة!

"وكنت مساء يوم 11 تموز (يوليو) 1982 في جزيرة إيسكيا، في عطلة صيفية. أخذت أتجول باحثاً عن حانة فيها تلفاز. وكانت المباراة قد بدأت، وصوت المعلق ناندو مارتيليني يخرج من نوافذ البيوت ويتبدد في الشوارع، وكنت أحاول تخيل تحركات اللاعبين، بينما أقود سيارتي، ثم دخلت أول حانة فيها تلفاز.. كان الحاضرون كلهم من الألمانيين، وقد تسلَّحوا بالبيرة وساندوتشات النقانق والأعلام والكثير من الغضب. وقفت في آخر الصالة حتى صرخ المعلِّق أخيراً "أبطال العالم، أبطال العالم، أبطال العالم" أخذت أصرخ مبتهجاً، التفت الجمع إليَّ، وجَّهتُ إليهم، لحظتئذٍ، حركة إيطالية بذيئة بذراعي، ووليتُ راكضاً والدمع يتجمَّع في عينيّ".

ويتذكر بوتيغليري: "9 تموز (يوليو) 2006. في الملعب الأولمبيّ في برلين. المباراة النهائية بين فرنسا وإيطاليا. بعد نهاية الوقت الإضافي الذي اختتم بنتيجة 1-1، تبدأ ركلات الجزاء التي فاز فيها المنتخب الإيطالي بنتيجة 5-3، المرة الرابعة التي نُتَوَّج فيها أبطالاً للعالم، بعد بطولات أعوام: 1934، و1938، و1982.. هذه المرَّة أيضاً شاهدت المباراة، وأنا أقف على قدميَّ، في الساحة، والمباراة معروضة على شاشة عظيمة الحجم، أدهشتني الطريقة التي انتهت بها المباراة.. ركلات الجزاء في نهاية المباراة هي ابتكار رائع، فكتبت مقالاً في إحدى الصحف أتناول فيه هذا الطقس المذهل، الذي أنتجه التلفاز، وهو التصوير المجازي "للكارثة الطارئة"، الشعور الأكثر انتشاراً في العالم الحديث.

وختم الروائي الإيطالي مقاله الذي ترجمه كاصد محمد، قائلاً: بعد أن قرأت الأعمال الكلاسيكية للأدب الغربي، أدركت السر وراء سحرها.. معظم الشعر الملحمي ينتهي بمبارزةٍ بين شخصين، وتكون المصادفة أكثر أهمية من المهارة، وحيث الحظّ يحكم المصائر في العالم. ففي النهاية ليست الكرة إلا شيئاً مبهماً، لها غلافٌ من الجلد، لكن روحها من الكاوتشو، وهي كلمة في لغة كيتشوا في البيرو تعني "الشجرة الضاحكة".. شخصياً، أعتقد أن الكرة في الحقيقة جنيّ.. شيطان يهزأ بنا جميعاً.


يوسف الشايب



* منصة الاستقلال الثقافية





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى