أحمد رجب شلتوت - توتة حمراء نائية

لم يكن الحصول على ثمار التوت الأحمر سببًا وحيدًا لذهابي إلى تلك الشجرة العجوز على أطراف القرية، حكايات الولد بهلول كانت السبب الأهم، أثار شغفي فغالبت خوفى ونسيت تحذيرات الأهل وترهيبهم، سرت وحدي حتى وصلت، خلعت حذائي وتسلقت الشجرة.
تحدث الولد بهلول عن كل شجرات التوت في قريتنا وكيف أن ثمارها بيضاء أو سوداء، وحتى الأحمر منها نجده شديد الغمقان فتبدو وكأنها سوداء، كل أشجار التوت في قريتنا هكذا باستثناء تلك الشجرة النائية المطلة على بيت البحارة فهي وحدها التي تثمر توتًا أحمر قانيًا. ولا تزال تلك الشجرة مثمرة على الرغم من كونها شجرة عجوز، عمرها من عمر جدّة الولد بهلول، أقسمت جدّته أنها أكلت من بشاير التوت الأحمر وهي طفلة لم تبلغ الخامسة، كانت عائدة من الحقل رفقة أبيها، فأوقف حماره تحت الشجرة ومد يده ممسكًا بأحد فروعها، وشده ليقربه منه وباليد الأخرى أمسك صغيرته الواقفة فوق ظهر الحمارة، وظل ممسكًا بالفرع والبنت تنتقي ما يروق لها من الثمار حتى شبعت.
جدّته قالت إن التوتة الحمراء تسكنها روح إنسية، لذلك فهي تحزن وتفرح كما البشر، حكت الجدّة عن زائر غريب نزل بلدنا وحده ولم تكن الدنيا أمانًا مثل اليوم، لم يَهَبْ السير وحيدًا في طريق الجسر في عز الظهر الأحمر، فخرج عليه لصوص متربصون، أغرتهم الصرّة التي يحملها، جرى وكأنه يطير، احتمى بالشجرة التي خبأته بين أفرعها الكثيفة، كانت ثمار التوت بين الأوراق كثيرة لكن نيئة صغيرة الحجم، ظن الغريب أنه نجا، لكن أولاد الحرام يعرفون أن لا ملجأ آخر له سواها، تحلقوا حولها وحاصروه، ولما طال لواذه بالشجرة رموا الخطاطيف وشدوا الفرع فكسروه، انتزعوه غدرًا من أمه الشجرة، وسقط الغريب ليموت تحت أرجلهم.
فتحوا الصرّة فلم يجدوا إلا هدومًا بالية وأرغفة خبز يابس، رموها وتركوا جثته، بكت الشجرة، وسحّت دموعها من مكان انتزاع الفرع منها، وسالت حتى غسلت جثة الغريب.
بكيت تأثرًا فربت الولد بهلول على كتفي وسرد العديد من كرامات التوتة الحمراء، وكيف أنها لا تسمح للغربان بسكنى فروعها، تمنحها فقط للعصافير، ثم سألني عن سبب اختلافها عن بقية الأشجار؟ أجبت بحركة من يدي وشفتي تعني أني لا أعرف. قال إن جده الراحل حكى له ليمنعه من تسلق الشجرة واشتهاء توتها. قال إن الشجرة مسكونة. قاطعته سائلًا عن الساكن، أشار لي مطالبًا بالصبر وألا أقاطعه، قبل أن يجيب هامسًا:
ـ جنيّة البحر تسكن جوف الشجرة، تغادر البحر هربًا من القمر حينما يتلألأ فوق سطح الماء، تختبئ داخل جزع الشجرة وتبكي دمًا، تتغذى عليه الثمار فتخرج حمراء قانية، وحينما يختفي القمر تعود الجنيّة إلى البحر. رفضت تصديق حكايات الولد بهلول، فأقسم بأن جدّه وجدّته أكدا له.
ـ وكيف عرفا بحكاياتها؟
ـ رآها جدّي ذات ليلة مقمرة، وهي تتخذ هيئة سمكة ضخمة، رآها تشق الماء قافزةً لأعلى لتسكن الشجرة المائلة على البحر.
فغرت فمي دهشةً، فأقسم أنه هو أيضًا رآها، لم تكن في عز صباها كأيام الجد، فلم تكفها قفزة واحدة لتصل إلى الشجرة، فأسرعت زاحفة لتختبئ في بيت البحارة. كان شعرها الطويل محلولًا، جرى خلفها ناويًا شدّها منه لكنه في اللحظة الأخيرة ارتجف، تراجع، خشي أن تلتفت فتراه، تخطفه، أسرع بالاختباء بين أفرع شجرة التوت، طال به الوقت فتشاغل بأكل التوت اللذيذ ومراقبة نافذَتي بيت البحارة المواجهتين للشجرة بأعمدتهما الحديدية، إحداهما كانت مغلقة من الداخل، أما الثانية فكانت مواربة، لحسن حظه استطاع أن يرى من مكمنه، أمامها حلة كبيرة مملوءة بالماء، وضعت يدها تحت الحلة فسخن الماء في ثوان، أقسم بأنه سمع صوت غليان الماء ورأى البخار كثيفًا، جال بخاطره أن الجنيّة قد تتحول لكتلة لهب تحرق الشجرة، امتلأ رعبًا فعاف الفرجة واحتضن كيس التوت، وأسرع عائدًا إلى البيت لائذًا بحضن أمه.
استعاد بهلول ما كان يقول الجد عن البحارة، وكيف أن جدّهم الكبير لم يكن بحارًا، كان فلاحًا أجيرًا، يسكن كوخًا عند الترعة، وذات مرة نزلها ليستحم، لسوء حظه طلعت له الجنيّة، سبق أن طلعت لكثيرين، كل فيضان تسحب اثنين أو ثلاثة من الشباب إلى مسكنها تحت أرض قاع الترعة، قليلون من كُتبت لهم النجاة، وكثيرون غلبتهم، تسحبهم إلى مسكنها، تمتص رحيق حياة الواحد منهم، وبعد أيام تلفظ جثته، فتطفو على السطح طالبة الستر في مستقرها الأخير.
***
جد البحارة كان يعرف سرّها، تعلّم مما حدث لعواد الذي رآها وهي تشق الماء، لحظة نزل الماء برجله، رآها فخاف وجرى هاربًا، الخوف أنساه التقاط هدومه، انكفأ عاريًا فطالته، اكتفت بمسّه ولم تسحبه إلى الماء، تركته ليجده الناس في الصباح فاقدًا الوعي، ولما أفاقوه ظل يهذي بما لم يفهمه أحد.
كذلك كان الجد يعرف ما جرى للولد رشاد ابن الباتعة، كان قويًا فقاومها، لم تقدر عليه فلم تتمكن من سحبه إلى مسكنها، اكتفت بأن سلبته عقله، من يومها وهو يهيم في الطرقات مطاردًا من أولاد أشقياء يرمونه بالحصى والشتائم.
جد البحارة كان صديقًا لعرّاف غجري، قدم له معروفًا فردّه العرّاف بما هو أحسن منه، أطلعه على سر الجنيّة ونقطة ضعفها، لذا لم يخشاها الجد حينما طلعت له، ثبت مكانه حيث كان يسبح، انتظر وصولها إليه، ظنّت ثباته خوفًا، رآها تفك ضفائرها، تطلقها في كل اتجاه، ليصل شعرها من الشاطيء إلى الشاطيء، وبقي هو مكانه، ينتظر أن تشب الجنيّة بجذعها متأهبةً للهجوم عليه، تربّص ملتمسًا نقطة ضعفها، فلما شبّت، وبان ثدياها، رآهما كعنقودي عنب، تمامًا كما وصف العرّاف فبادر بالهجوم، احتضنها مطبقًا بفمه على أحد ثدييها، كان ملمسها زلقًا، كادت تنفلت، أسرع بقضم حبة عنب، صرخت الجنيّة، ولولت، ضعفت، أصبحت كالإنسية، أبهى من أي إنسية وأشهى، لم يفلتها، جرّها إلى الشاطيء، أدخلها الكوخ، وعاشرها كأنسية.
لم تعد الجنيّة إلى الماء طوال حياة الجد، نزل هو الماء، هجر الفِلاحة، واكترى قاربًا، يرمي الشبكة فتملأها أخوات الجنيّة بالسمك، لتأكل أختهم التي أنجبت للبحار أولادًا ورثوا القارب والشبكة وبنوا بيتًا مكان الكوخ، أما الجنيّة فعادت إلى الماء لا تصعد إلا حينما تشتاق لرؤية أحفادها.
***
حكايات الولد بهلول جعلتني أغالب خوفي وأسعى لرؤية الجدّة الجنيّة، انتظرت ليلة اكتمال القمر، تسلّلت وتسلّقت الشجرة مستعينًا بالضوء، أكلت كثيرًا من التوت الأحمر، وكانت النافذة مفتوحة، ظل قضبانها ارتسم على فراش البحار الابن، كان يسعل وينادي ذاكرًا أسماء أولاده:
ـ ردّوا عليّ ياولاد الحرام، هل أصابكم وأمكم الصمم. كوب ماء يا أولاد الحرام.
امرأة شعثاء أحضرت الكوب:
ـ اشرب، إن شاء الله يكون آخر زادك.
ـ تتمنين موتي يا جاحدة.
ـ طلباتك لا تنتهي، ولسانك لا يخرس، فلتمت لتريح وترتاح.
قذفها بالكوب الذي فرغ، أصاب جبهتها فهجمت عليه، أراها تجرّه، تلقيه من فوق الفراش، تضربه بقسوة وهو يصرخ، وجدتني أكشف عن مكمني وأصرخ فيها:
ـ دعي الرجل يا بنت الكلب.
رأيت ظل القضبان يرتسم على وجهها وهي تحدّجني:
ـ بتعمل إيه عندك يا ابن ستين كلب؟ انتظرني خارجة لك.
قفزتُ مغادرًا الشجرة، تناثر التوت من حجري، جريت بأقصى ما أستطيع محاذرًا النظر خلفي، بينما كان سباب الجنيّة يطاردني.
توتة حمراء نائية.. أحمد رجب شلتوت - سوناتا | للثقافة والفنون

SONATA.NEWS
توتة حمراء نائية.. أحمد رجب شلتوت - سوناتا | للثقافة والفنون
بكيت تأثرًا فربت الولد بهلول على ك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى