عبدالله عبدالإله باسلامه - طبول حب وحرب.

أقدّم رجلا وأؤخر أخرى... فلا أنا وصلت المكان ولا عدت أدراجي، توقفت هنيهة لأحزم أمري لكن صعقني إيقاع الطبل الرتيب بضرباته المتتالية تردفها دقات طبل الطاسة النحاسية يمتزج الإيقاعان - معلنين عن رقصة برع* الثنائية - اقتربت غير مصدق أن جواس أعلن علي الحرب !

يهرع الناس عبر أزقة البيوت الطينية، يتهافتون تهافت الفراش على قبس الضوء، ينضم إليهم القادمون من الوادي القاحل عبر الطريق الترابية، ويتحلقون في الساحة الصغيرة أمام بيت شيخ القرية .

ثمة من يدفع عصام إلى وسط الحلبة فيتقدم ببندقيته مترددا وهو يمتشق جنبيته*، تراجعت كي أنسل مغادرا المكان و.. يا لوقاحته إنه يشير إلي !
هاهي الأنظار تصوب نحوي، أحدهم يمسك بي، وهذا آخر يدفعني من الخلف ويناولني بندقية(إذا فهي الحرب ياجواس) همست لنفسي وأنا أستل بتحد جنبيتي، متقدما داخل الحلبة قابضا باليد الأخرى على فوهة البندقية أسندها على كتفي، في مواجهة عصام الذي بدا مكفهر الوجه منقبض النفس، يتحاشى النظر إلى وجهي، ربما هو الآخر غير مصدق أن جواس فعلها !

ترتعش الجنبيتان، ويعكس النصلان الحادان أشعة الشمس اللاهبة، يلتوي الخصر فيميل كل جذع فينا عكس إتجاه الآخر، أمد رجلي اليمين لأدوس بمشط قدمي موضع قدمه اليسار التي ترجع إلى الوراء في نفس اللحظة، ليتقدم برجله اليسرى فأرجع برجلي اليمين إلى الوراء، ينتصب ظهر كل واحد في قفزة بمقدار خطوتين إلى الخلف، وعلى العقب يلتف كل واحد حول نفسه مرة إلى اليمين ومرة إلى اليسار قبل العودة إلى الوضع السابق و...
ياااا الله...ها أنا أشعر بها، أكثر من أي وقت مضى، بلمسة يدها، بصوتها الرقيق :
(أنا خطوة، وأنت خطوة، إلى الأمام تراجع لفة خطوة، دورك يا عصام خطوة خطوة...)
ويمر بنا الوقت دون شعور، حتى تنزلق شمس يومنا على وعد التلاقي مبكرا.

ومع شروق شمس اليوم التالي أسابق أغنامي بالخروج، لأجد عصام مع أغنامه، وتنضم إلينا نورية بحمارها ونعاجها البيضاء، وما أن نصل مشارف القرية حتى نرى جواس الأفطس ذي الشعر الأكرت يلحق بنا، ورغم أنه لا يملك أغناما بسبب فقر عائلته؛ إلا أننا لم نك نمانع اصطحابه معنا؛ فغباؤه وسحنته البلهاء كانت مصدر سخريتنا، وسبب إلقاء مهام سوق القطيع، وسقيها، وحراستها عليه، والأهم من ذلك قيامه بدور (الطبال) في حفلة الرقص التي تبدأ بإختيار نورية للمكان عند سفح الجبل، أو تحت شجرة السرو الوارفة في الوادي، تكنس المكان بعشبة العثرب الطرية، ليستند جواس إلى جذع الشجرة ويضع بين ساقيه جردل الماء يدق عليه بعيدان رفيعة من الخيزران، ونبدأ ثلاثتنا بالرقص نقلد ما نشاهده في المناسبات المتعددة التي كنا نتسابق على حضورها في القرية.

في البداية كنت أنافس عصام على إجادة الرقصة، وبمرور الأعوام أخذنا نتسابق على نيل إعجاب نورية التي أخذت تضج أنوثة وتفيض رقة، ثم تحول إلى تنافس خفي ومرير على قلبها، زاد من محنتي انتقالي إلى المدينة لدراسة المرحلة الثانوية، وكان عزائي الوحيد أن عصام ضمن رفاقي الذين انتقلوا معي .

أما جواس فأتقن بمرور الأيام الدق على الطبل والطاسة، ثم امتلك واحدة حقيقية كانت بمثابة حلم حياته، ومصدر متعة لنا خلال العطلة الصيفية، فنرقص بضعة أشواط، رغم حلاوتها إلا أننا كنا نفتقد إليها، ونداري مشاعرنا المتقدة شوقا إليها، ونخفي صراعا صامتا، يحتدم بمجرد وصولنا القرية، فأذهب مباشرة للبحث عنها في الوادي، أو أنتظر مرورها في الطريق كأنني مررت صدفة، فألقي عليها السلام لترد وهي تغض طرفها بحياء، وتمضي بسرعة بينما أتخشب مكاني كسائر جذوع الأشجار التي تظلل طريقها، لأشيعها بقلب مفتون هائم، لا تكاد الأشجار وتعرجات الطريق تواريها عن نظري حتى ألمح عصام يحوم في الجوار، يتجاهلني وأتجاهله بدوري على مضض، وقلق يتغول في صدري من أن يسبقني إليها رغم ثقتي بأن مشاعره - مثل مشاعري- ستظل حبيسة صدره إلى أن ننال الشهادة على الأقل.
وحده جواس من كان يثير سخريتي وغيظي بحديثه عنها بوقاحة، وسخريته الفجة من مشاعر الحب، والعلم، والشهادات التي لا تؤكل عيشا مقارنة بالمال والقوة...وما كنت لأغار منه؛ مثله لا يفهم شيئا عن الحب، أو أن يحظى بإعجاب فتاة بإبتسامته الصفراء، وقعشته التي تهتز مع أدنى حركة من رأسه، كما أضاف إلى العصي اللاتي لا تفارق حزام خاصرته مسدسا ضخما، كونه أصبح المرافق المخلص لشيخ القرية، وجاسوسه، وذراعه في جباية المال والغلول*؛ فتحول إلى طاغية أكثر منه، وجلاد يسوطني وعصام - الآن - بضربات الطبل والطاسة، بعد أن أوقعنا في شراكه، ليتلذذ بتعذيبنا، وينتقم لنفسه في أبشع صورة.

لم نعد نبال بذلك اللظى فوق رؤوسنا، وأننا صرنا نسبح في عرقنا، ونتنفس مثار النقع حولنا، كان من المفروض أن يتغير الإيقاع بعد خمسة أشواط فقط للإنتقال إلى الرقصة الجماعية فننسحب بخطوات منظومة ويدخل أربعة أو ثمانية غيرنا لكن الخبيث واصل نمط الإيقاع حتى بلغنا الشوط العشرين دون توقف، فيما الحلقة تضيق علينا أكثر وأكثر بجمهور مستمتع مبهور كتم أنفاسه يراقب بذهول معركة نسينا فيها أنفسنا، وتحولت الحركات إلى تشنج، والخطوات إلى توتر مفضوح، ونزال يستشرس أكثر وأكثر كأننا ظفرنا بحاجتنا للتحدي بقدر حاجتنا للتنفيس عما يغلي داخلنا من قهر، وذل، وغضب...جاهد كل واحد منا كبحه، وكتمانه طوال ساعات الصباح التي قضيناها في السفر إثر تلقينا مكالمة صاعقة من جواس
يدعونا لحضور حفلة خطبته على نورية.


عبدالله عبدالإله باسلامه.
اليمن/ ذمار .




=====================
* (البرع) رقصة شعبية يمنية ذات إيقاع حربي تقام في مختلف المناسبات.
* (الجنبية) أحد أهم مفردات الزي الشعبي وهو خنجر له مقبض ثمين.
* (الغلول) نسبة معينة من المحاصيل الزراعية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى