داود سلمان الشويلي - علبة "كلينكس":

رآها نائمة في حضن أمه المتشحة بالسواد مثل ليلة بقمر شاحب، كانت صفراء الوجه، ممصوصة الخدين كليمونة ذابلة، وفي عينيها الحمراوين يتحرك بؤبؤاهما يمنة وشمالا وهما تائهان. وكانت اللعينة "الكورونا" قد سيطرت كليا على سنتي عمرها فتركتها تتنفس بصعوبة، فيما أمها تمسح عن وجهها الذابل العرق المتصبب من مساماته بقطعة قماش مزقتها من شالها الأسود الكالح اللون.
كان أبوه قد غادر الدنيا قبل شهور فتركهم نهبة للفقر، والعوز، والفاقة، لولا ما يحصل عليه، وأمه، من نقود يجلبه لهم التسوّل في السوق كل يوم لماتوا من الجوع.
ترك والدته وأخته التي في حضنها، وهي تصارع عملية الاستنشاق، والزفير، وخرج حاملا سنينه العشرة من دارهم ذات البوابة الصدأة المصنوعة من حديد "برميل" مفتوح. كان المساء قد حل بالمدينة، والشمس مالت الى الغروب، حتى اكتست السماء بلون أحمر يبعثه قرص الشمس الآيل الى الاختفاء والسقوط في هوة الأفق الواسع، حيث تنزل شيئا فشيئا الى الأسفل. لم يحصل على فلس أحمر، وهو يدور في السوق بين المحلات التي بدأت تغلق أبوابها. كان يمد يديه للتسوّل دون فائدة، عندها حانت له التفاتة ليرى أحد محال السوق قد وضع بضاعته أمام المحل، رأى الى علب "الكلينكس" وهي مرتبة بإتقان خارج المحل، تذكر شقيقته في حضن أمها، والعرق يتصبب من وجهها، اقترب من العلب الكارتونية، سحب علبة واحدة، فرّ بها هاربا، لم يره صاحب المحل، ركض حتى وصل دارهم، دفع الباب، ودخل مسرعا لا يلمح أي شيء. كانت الشمس، وقرصها، وهالتها الحمراء، قد اختفوا نهائيا، وقد سحبوا معهم النهار، وحل في السماء ظلام دامس غاب عنه القمر لم يفتته سوى ما يبعثه الفانوس من نور أصفر شاحب في الصريفة التي جلست فيها الأم، وهي تبكي بصوت بالكاد كان يسمع، فيما أخته قد سكنت حركة صعود وهبوط صدرها نهائيا.

29 / 12 / 2022
***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى