محمد حافظ رجب - جولة الدرويش فى حوش الملح.. قصة قصيرة

محمد حافظ رجب.jpg

هدير الشيخ الضرير يدوى فى أنحاء العالم.«لكن عذاب الله شديد» ومضى يتحسس بعصاه معالم الطريق المندثرة أنواره»
وميض خاطر مضىء انجفر داخل (الدرويش) : غضب الله سبحانه وتعالى لما حدث له فى نقطة بوليس (المفروزة) أهدروا هناك آدميته..
..... ...........
ذهب (الدرويش) إلى شغله كالعادة : الأفواه المذعورة تخرج بخارها ثرثرة عن (الزلزال)..
.. قالت (الثرثارة) و(ابتسام) : «أنت اللى عملت الزلزال ده» وحاولت «نرجس» الثرثرة معه عن الحدث العظيم.. لم تطاوعه نفسه على الاشتراك فى وليمة الثرثرة المباحة للجياع أجمعين... شعر بالغثيان يعود إليه من جديد.
(إيمان) المرعوشة مع ابنها المعجون بمية العفاريت يتدحرجان من المرجيحة .. الرجل (صغير الحجم) يداعب ابنها بغزارة ليكتسب خطوة جديدة عند نساء الكهفين.
نرجس تحاول - من جديد - لضم إبرة الحديث مع الدرويش بلا جدوى .. الإبرة لا تخترق القماش العنيد.
المحققة غارقة فى صمت مأساتها.. بلا ذكر هى حتى هذه اللحظات : أين الذكور يا أولاد.. غارقون فى نهر الحرمان.
عاد الدرويش مقهورا إلى بيته.. تجرع الحزن الحزين آسفا من أين يأتى بمن يقتلع من عينيه ماء الحزن الأسيف هو لا يحتمل أى شىء.. اخترق باب عمر باشا : لا حرس ولا حراس من الإنكشارية الشداد اشترى صابون غسيل وصابون حمام وكيلو رنجة.. خدعه البائع.. لف السمك المدخن فى لفافتين سميكتين ليطب الميزان قبل أن يستريح فى سريره : الأوغاد يلعبون لعبة الموازين بلا براعة.
قال الدرويش لنفسه : لم يذكر أحد من الفاعل الحقيقى.. لم يقل أحد إنه الإنذار الإلهى
المحققة العانس مهزومة فى كل الحروب.. فى قدمها جروح وتقيحات تغطى مساحة خريطة العالم الفسيح - تقهقه الآن - قهقهاتها تهز الداخل لم يبق لها إلا القهقهات لإخراج دخان العربة التى لم تسترح بعد من مشوارها الطويل.
هدى المطلقة تحضر للحسابات تضرب التليفون.. تبتلع حبوب ضغط الدم تضحك أحيانا وتبكى فى أغلب الأحيان : مات الميت ولم يظهر له أهل ولا ولد يرثه.
إيمان وابنها يثيران ضجة تصرخ فيه ليكف وتتركه يفعل ما يشاء... يلتقط الطعام تدسه له فى فمه : الرجل (صغير الحجم) يداعب ابن ايمان يجلسه على ركبتيه يهز المرجيحة تحلق بها بعيدا بعيدا حتى سماوات الله السبع..
ليلى العاشقة المسكينة : امرأة حفظ الأمانات عاشقة ضواحى المخازن تحضر كالعادة.. تدردش مع المحققة : فتح شهية ثم تدخل قفص الشمبانزى الوسيم.
علم الدرويش آخر النهار أن مدير الإدارة المالية والإدارية فى مصلحة المظاليم قال لها : ما تطلعيش فوق وتقابلى الشمبانزي الوسيم .. لم تهتم به.
نرجس قالت للدرويش انت اتغير لون جلدك خالص صار أزرقا
قال الدرويش : هل تتبادل معى.. تعطينى لون جلدك أنا أعطيك جلدى وغاصا فى المهد إلى اللحد.
حديثها طويل التيلة وهو موجوع من الزلزال : رقصوا جميعا فى ربوعه .. قالت نرجس للدرويش كلهم مش عارفين احنا بنقول إيه.. أنا وانت بس اللى عارفين : لك الشوق والشوك ولهم الخذلان أجمعين.
...
اليوم ولد بداية غريبة للدرويش .. عند مغادرته لمأواه نزل خلفه النجار الشرس (مأواه هناك فى حديقة الحيوانات) ابن صاحب البيت وثالث ثلاثة أشقاء أشقياء.. حياة الشرس رد الدرويش التحية من مكان نزول الفضلات وانصرف كل منهما إلى حال سبيله
وصل الدرويش إلى الصينية وجدها عارية اللحم إلا من أكواب الشاى.. وجد عربة مشروع دخلها وجد أحد الركاب يهىئ له المقعد الخالى.. تفرس في الرجل وجده النجار الشرس سبقه إلى المحطة.. ركب المشروع.. أخرج الدرويش العملة ليدفع له وله لكن الشرس صمم على الدفع : «ابنى شاطر وأم ابنى طليقتى تحضر لرؤيته وهى زوجة رجل عجوز عنده أولاد كبار.. لكن تعرف أنا مش عارف إزاى تم الطلاق..
«قطع الله عنقك» قالها الدرويش فى نفسه
وسرح الدرويش فى ملكوت الله العريض : الشقى النجار يهدم عليه مظلته.. تأويه الليل والنهار.. سأل الدرويش سيده ومولاه : «انظر مولاى .. كيف يدمر الشقى هدوء مأواى.. خذ بثأرنا منه.. احرمه ربى من لذة امتطاء أنثاه..
قال الدرويش اوعى تهدم السقف فوقنا
لن يهدم السقف إلا بأمرى.
قال الشقى : جاركم عاوز يعمل تقاطع فى الشقة : يفصل بين النهرين.. قلنا له إوعى تقطع حاجة وإلا قطعنا رقبتك نلقيها تحت عجلات قطار مرسى مطروح.. مش كفايه إنه دخيل على الشقة.. إحنا فى شوق لنتذوق لحمه النى
سأله الدرويش : انت رايح فين
قال : أنا بتمشى شوية من جهة محطة مصر وراجع تانى
ليتنى أراك محمولا على الأكتاف تقتات من دمك أسراب الناموس الجائعة الهائمة فى نهار الليل وليل النهار القادمة من ترعة النوبارية الوغد راح والوغد جاء متى يحملونه الحمل الأخير
قال الدرويش تعال.. معايا ديوان المظاليم.. لنفسه : تدخله ولا ترجع منه على الإطلاق.
وضع ذراعه فى ذراعه.. لكنه فى داخل سوق القطارات والفحم المشتعل بالدموع الحارقة .. سار وحده إلى مصلحة المظاليم وجد سعيدة المطلقة الثانية تأكل أظفارها ولا تهضمها يبدو عليها الإرهاق الشديد.. تحتضن ابنتها (الأب موظف من امبابه أنجبها فى ساعة عسر عسير) فى حنان حزين لم تحضر العانس الجميلة إلى مصلحة المظاليم .. اليوم (إيمان) ابنها يتبرز عفاريتا وجنونا .. تصرخ فيه يعبث بأدوات المطبخ تقتلع شعر نعليه .. يزداد جنونا.. ويلوك شعره حتى التخمة الحائط يركز ذكورته على الكاهنة رئيسة الحسابات.. نرجس تحتضن كلمات الدرويش وصغير الحجم يتناول سندوتش الصباح رشوة كل صباح من أمانى المشتاقة إلى يوم العناق.
النساء فى الحجرين يشحن بوجوههن عن وجه الدرويش المتآكل من الحزن الحزين.. يبدو لهن عفريتا من الجن.. تحولن بأنظارهن إلى الرجل صغير الحجم قال الدرويش أظنه من عمل الشياطين يريدون محاصرتى لأكف عن متابعتهن. حمل الباب.. نفذ منه أوقف الناس عن السير حتى يعبر النفق .. أسأل الذين يسألون : يا ناس يا بشر : خيرات الله تغمرنا فى الطريق العام حيث يتبول الحمار والبغل والحصان .. فلم تدوس المعزة على عنق جرتها.
بطاطس اشتراها مذاق كل عصر.. حملها مع كيلو بامية.. اشتراها من عامل فلاح يعمل بمصلحة المظاليم.
تتابعت الكاميرات الحية والميكروفونات حول شاب أنقذوه من تحت أنقاض عمارة مصر الجديدة المنهارة بعد أن قرض فئران المذبح حديدها في يوم الزلزال العظيم قال مدير مستشفى هليوبوليس إن الشاب شرب من بوله حتى ارتوى من مائه الذى اقترضه من فئران المذبحة أسفل الصهاريج الصدئة ورفضت زوجته الأجنبية شرب بولها فماتت.
فتح صنابير النافورات المتدفق سيرها وأخمد حريق الجسد الفائر فى منتصف مياه ميدان التحرير.. صلى الشيخ صادق العدوى صلاة الغائب على أرواح ضحايا .. قال : «إن السوء انتشر
قال الدرويش لرجل يمر أمامه.. يتعب المرآة ويمر : الطحال يباع فوق عربات.. يجب أن يتطهر الناس بفرشة أسنان جيدة..
يحترق الدرويش حريقا حريقا يدمر بنيانه كلما فكر فى السبب فى الطول والعرض ويباع أنقاضه فى سوق الجملة بأرخص الأسعار كل ما يريده من الدنيا استخراج بطاقة شخصية ولا يعرف كيف يستخرجها من تحت الأنقاض..» ترك الأمر لله دليل الحيارى فى متاهات الأيام العجفاء.. قال: «مولاى لا يريد الآن - على الأقل - أن يدلنى على طريقة أحصل بها على البطاقة..
عطس عطسة حلوة.. فكت كربه الشديد.. شكر (الدرويش) ربه القدير عليها.
ليلى امرأة حفظ الأمانات حبيبة أمين المخزن وقرة عينه .. نقلتها هودج اللحم العظيم إلى فرع من فروع مصلحة المظاليم. من الأرض الحارة نقلتها تنبت شعيرا وحنطة إلى حمامات السباحة أيام المجد الرومانى التليد : لمحها موظف الأمن فى المصلحة وهى تسير مع حبيبها من فتوات محرم بك صار أمين المخزن العاشق وحيدا : كلبا أجرب ينبح وحده بلا إناث متيمة بحبه.. ماتت أم هودج اللحم العظيم مديرة مصلحة المظاليم وتوافد الرجال يبحثون عن مقر وضع جثة الأم الكبيرة فى مدافن المنارة.. فى عربة مصلحة. جلس رجل الإدارة المالية القبطى والمهندس القبطى بجوار السائق.. فتح السائق أبواب محطة القرآن الكريم وباقى العربة تحمل مظاهرة المعزين.. أما الإبراهيمية حيث إقامة هودج اللحم العظيم رفعت رايات الحزن العميق تحية لجثمان الأم وهى فى طريقها إلى نهاية النهايات.. وجلس بجانب الدرويش هانى شارب البايب الموظف القبطى الجديد.. ومدخنة البايب تنفث دخانا رماديا بنكهة لذيذة غطت الطرق والكبارى والترع والمصارف عند أول وآخر الطريق السريع.. عند السرادق وقف الشاب الطبيب الممتلئ لحما وعظاما ودما تمرح فيه سيارات الحزن الغامر على الجدة الحنون ووقف بجانبه ضابطان كبار من البحرية ومعهما عدد من الجنود ببنادقهم.. قال الدرويش لأحدهم : ما لزوم حملة البنادق وإطلاق النار فى الهواء.. وبث القلق فى نفوس الموتى الراقدين فى هدوء تحت عالم الأتربة قال : لزوم العز والأبهة والمجد المهيب .. وقف شعب المصلحة بجوار بعضهم يتهامسون ووقف الدرويش بجوار دهاء التصق دهاء بالدرويش قال الدرويش لنفسه لعل شجرة الجميز طرحت ثمارها فى داخله.. أما النصف بغلة فإنه لا يمسك نفسه بحبل غليظ.. تطل من شبابيك عينيه قهقهات ملتصقة بالغراء فى وجهه لا يقدر على نزعها إلا نجار عقير متمرس فى الداخل أشار دهاء للدرويش إلى حجرة تتصدر مدخل الباب : حمدى صالح الضابط السابق ورئيس الوزراء فى عهد سابق ينام فى قبره حزينا تذرف عينه دموع ساكنة صامتة أغمض العينين يزهد فى الدنيا بعدما رأى ما وراء الغمام حيث المسرات والأحزان ومجدى فواز أحد المحافظين السابقين لا حرس يحييهما ولا يتذكرهما أحد.. قال الدرويش : صمت أنتما صمت والعالم مشتعل الإوار قالا : عافنا الدنيا وان كان هناك حنين للعودة ولو كضابط صغار الرتبة .. قال قائل : تقبل العزاء فى الداخل يا سادة حيث يرتفع الموت فى الساحة الآهلة بالمنسيين.. رحلوا ثم يعودون فى يوم من الأيام.. سبقه دهاء وجد الدكتورة شقيقة هودج اللحم العظيم وأختها الغارقة فى بئر الدموع الممتلئ حتي الحافة.. ولمح الدرويش ابنة أخت هودج اللحم العظيم وأخريات يقرأن آيات من القرآن : الآن تتجلى الحقيقة رائعة.. ضوء عظيم يضىء لعدة ساعات ثم ينساه الناس : رحلة اللاعودة للدنيا إلى الأبد.. دنيا حافلة بالأحزان والمسرات واللامسرات..
صافح الدرويش الدكتورة وصافح أختها النائحة بشدة على الميتة حتى غرقت سفن أحواض المقابر..
وتوجه الدرويش إلى عرب المصلحة فى الطريق إلى المصلحة مكتظفة هى بالعائدين : عادوا من نزهة الحقيقة الصارمة لا حدود لها.. يغرق من يغرق ويسبح من يسبح حيث لا شاطئ إلا شاطئ لله..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى