محمد عبد النبي - قميص إنسان سعيد

استيقظَ مبكرًا ومُستبشرًا، كعادته كل صباح.
مسحَ أميرُ الحكاية بظاهر يديه آثار حلم الليلة الماضية عن عينيه، وأجال بصره فيما حوله يلملم أشلاء حياته بوعي اليقظة ويقيم صُلب ذاكرته. هذا جناح نومه في القصر .
هذه هي مملكته الصغيرة التي لم يعد يذكر كيف أو متي آلت إليه أو ماذا فعلَ لكي يستحقّها.
لا يشغله إلّا مراياه المسحورة، يعبرُ منها فتتحوّل هيئته وحياته إلي هيئة وحياة شخصٍ آخر. هكذا يتجدّد، هكذا يعيشُ أبدًا، وبعد أن يتناول فطوره ويصرّف بعض شؤون الحُكم العاجلة، يُفكّر متمهلًا في أي صورةٍ سوف يتنكّر هذا اليوم.لا أحد سواه يدخلُ إلي غرفة المرايا، وراء كل مرآةٍ بابٌ سحري وممرٌ مُظلم يقودُ إلي حياةٍ أخري،ولا رجوع منها إلي القصر إلَّا عَبرَ النوم واستعادة مملكته في الحلم من جديد. لمسَ إحدي المَرايا فانشقّت ودخل، انغلقَ بابها من وراءه.
استيقظَ مبكرًا ومُستبشرًا، كعادته كل صباح.
مسحَ حَطَّابُ الحكاية بظاهر يديه آثار حلم الليلة الماضية عن عينيه،وأجال بصره فيما حوله يلملم أشلاء حياته بوعي اليقظة ويقيم صُلب ذاكرته. هذا كوخه الصغير، يرقدُ علي حصيرٍ ناحلٍ عاريًا تمامًا تحت غطاءٍ خفيف، وإلي جانبه امرأة بدينة يسيل لعابها علي المخدة، ومن حولهما يتناثر صِغارٌ نائمون.
هذه هي مملكته الصغيرة التي لم يعد يذكر كيف أو متي آلت إليه أو ماذا فعلَ لكي يستحقها.
ألم يكن أميرًا منذ دقائق معدودة؟
مفاجآت غرف الأحلام لا تنقضي أبدًا.
زعق فيها:
قومي يا ولية، النهار طلع.
استر نفسك يا متعوس قبل أن أوقظ العيال.
هذا المتعوس هو أمير الدنيا يا مسكينة.
صحيح مسكينة لأنَّ الله ابتلاني برجلٍ خفيف العقل لا رجاء فيه.
لماذا لا يكون هذا هو الحُلم والقصر هو الحقيقة؟
قسمتك ونصيبك، احمل بلطتك واذهب ولا ترجع بيدٍ خالية أحسن لك.
في طريقه كان الحَطَّاب يُصفِّر لحنًا راقصًا ويوزّع التحيات والابتسامات كأنه حقًا أمير الحكاية.
في الغابة كان الأمير ينفخ في كفيه ويحتطب ويسيل عرقه علي وجهه وبدنه كأنّه حقًا حطّاب الحكاية.
اثنان في جسد، وكلُ واحدٍ في حلمه. جسد الأمير في ثياب الحطّابين، يسيرُ حافيًا وهو يُغنّي وعلي كتفه بلطته وحول خصره حزام من لبّاد. يلتقي بعض معارفه فيسخرون من سعادته الدائمة بلا أسبابٍ وجيهة. ثم يلتفتون إلي أطرافه متسائلين:
أهاتان يدا حطّاب؟ أهاتان قدما حطّاب؟ واللهِ لكأنها لأمير البلاد.
وقد يبتسمُ خجلًا كأنَّهم كادوا أن يكتشفوا هويته في حفلةٍ تنكرية. وكما يحدث في كل يوم حتي نهاية الأزمان، إن كان لها نهاية، عليه أن يتعلّم كل شيء من البداية، أحيانًا بمعونة آخرين يعثر عليهم في طريقه وأحيانًا بلا عونٍ إلّا ما يتلقَّاه عن مخلوقات الله، يقلّد أولًا ثم يخترع، ولا ينعس ليلًا إلا وقد نسي كل ما تَعلَّم وابتدع، لكي يولد نظيفًا في الصباح. هكذا يتجدّد، هكذا تحتفظ لُعبة التنكًّر بدهشتها ورونقها مهما تكررت. ليس عليه أن يجدَ طريق العودة إلي قصره، ما عليه سوي أن ينام ويحلم به حتي يصحو وسط بحرٍ من الحرير وجناتٍ مِن نخيلٍ وأعناب، وجارية يذكر أن اسمها عِنَّاب.
قال لنفسه سأصحو أميرًا مهما لقيتُ من شقاءٍ مع كل صورةٍ أتنكّر فيها.
قال لنفسه ربما أتكاسل غدًا فلا ألعب ولا أخرج، ربما أملي حكايةً جديدة علي ناسخي، حكايةً عن أمير يملك الدنيا وما عليها لكنه حزين، وحَطّابٍ لا يملك غير بلطته لكنه سعيد، وكيف أنَّ الحكماء وصفوا دواءَ حزن الملك بأن يرتدي قميصَ رجلٍ سعيد، وعندما يعثر رجال القصر علي الحطّاب الذي يُغني سعيدًا يجدونه لا يملك قميصًا واحدًا يستره.
أين ذَهبَ قميصك يا متعوس؟
خلعته ورميتُه في البئر قبلَ أن يصلَ رُسلُ الأمير.
كان يمكن أن يشتريه منك بثمنٍ يُغنينا وأولادنا لنهاية الدَهْر.
كان لا بدَّ أن أتخلّص منه حَتَّي يستطيع الأمير أن يكتب حكايته، وليتعلّم الناس أن السعادة لا تُشتري بالمال.
ونبقي نحن جوعي ويبقي الأميرُ حزينًا؟
كلنا خُدّام في بلاط الحكاية يا ولية.
تغور الحكاية التي تفضح ولا تستر.
قد يضحك الأميرُ عندئذٍ فيسمحُ الناسخ لنفسه بابتسامةٍ صغيرة، قبل أن يصرفه وقد أضيفتْ حكايةٌ جديدة إلي صندوق حكاياته. يقضي بعض الشؤون ثم يخلو إلي عِنَّاب، أقرب جواريه إلي قلبه، تدلّك له جسمه بأفخر الزيوت وأنعمها، وتهمس متسائلة:
أهاتان يدا أمير؟ أهاتان قدما أمير؟ واللهِ لكأنها لحطابٍ تعيس.
ماذا تقولين يا عِنّاب؟
لا شيء يا مولاي، ولكنَّ لك في كل يومٍ حال، حتي بدنك يتبدّل فأكادُ أنكرك لولا الثياب.
لولا الثياب لأنكر الناسُ بعضهم بعضًا.
لكن أصابعك مخدوشة كأنّك كنتَ تحتطب.
زهور الكلمات لها شوكٌ يُدمي الأصابع، أم حسبتِ أنَّ وَضْعَ الحكايات نزهةٌ في بُستان؟
وفي أي صورةٍ تنوي أن تخرج غدًا؟
لا أدري، ربما أكون تاجرًا جشعًا يضع عينيه علي زوجة أخيه، أو أكون فقيهًا ضريرًا أضاعَ ختمه عند ضريح وليٍ مجهول، أو غلامًا ناعمًا يعمل في حَمَّامٍ ويعبث به الرجال، أو صيّادا يعثر علي الجوهرة في بطن السمكة، أو الجوهرة، أو السمكة...
تتعالي ضحكات الجارية عِنَّاب كلّما أوغل الأمير في احتمالات مَرَاياه، فينهضُ إليها وقد تحفَّزت حواسه، مواصلًا التغني بأزياء تنكره:
أو جارية حلوة في قصري واسمها عِنَّاب.
أأنتَ مَن يختار حقًا أم تختار لكَ المرايا؟
يبتعد عنها وقد اعترضَ سؤالها سبيلَ لَذّته:
هذا هو السؤال القديم الجديد يا عِنّاب. كأنني أسوقُ الحُلم ويسوقني.
لا بأس، ما دمتَ تعيش حُلمك يقظًا بينما يعيشه الآخرون نيامًا.
لكنّ الأمير نفسه يبقي بلا حكايةٍ ياعنّاب.
تزعق امرأةُ الحطَّاب في الحالِم:
مَن هي عنّاب تلك يا متعوس؟
انخمدي الآن واتركيني أَنعم بعِيشة القصور ولو دقائق.
مِن وراء المرآة يسأل الحطّاب انعكاسَ صورته:
ومَن تكونُ الآن يا أمير؟
فيجيبه الأمير من الجهة المقابلة:
هذا هو السؤال الجديد القديم يا حَطَّاب.




3/3/2018
المصدر: أخبار الادب الأدب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى