يعقوب المحرقي - هو لا يتلاشى

يذوب بلل الضباب حين يلامس ما تهذي به الارض من أريج صوب السماء ،
فيتلاشى الهوينا .
اذا استيقظت الشمس وخلعت ثوبها البرتقالي ، لبست قميص العمل الفضي ،
بدأت يومها بمشاكسة الحالمين
على مخداتهم ، وذوي المآقي القرمزية الثقيلة ، افرطوا في معاقرة الفراش دهرا ،
وذوي الهالات السوداء حول عيونهم ،
كأنهم خاضوا معركتهم الاخيرة
قبل الوسن ، والنائمين في العراء ،
وتحت الجسور ، ملاذ اسلافهم وموطن تخيلاتهم .
تنزل الفضية القدمين الدرجات الحجرية وتدخل البيوت من نوافذها تحيي نساء صاحيات مع الورد وصيحة الديك الأولى ، وقبل اذان الفجر ورنين ناقوس نجمة الصبح ، تشم الشمس افطارا بعبق القهوة ، وضوعا بنعناع الشاي ،
تحيي السيدات بحرير السلام ،
وتغمز لصبايا سادرات في ريش المخدع.
يتلاشى الضباب نديا ، شفيفا، كغلالة من ورق سني يمد يدا لمصافحة بريق خيوط فضية تنسل عبر بقايا الليل الرمادي .
ينتظر العشب والشجر وخراف الراعي ، والرعيان قطرات المطر ، عطش الم بهم ، رفعوا صلواتهم
الى قطيع السحاب في أعالي الجبال .
فصلا بعد اخر ، يهطل غيثا مدرارا ، تسيل برضابه شهية الوديان وتسمن الخراف ، ويستقي الرعيان، وتنهض من غفوتها الأرض، وتتبادل الحلل الخضراء والزاهية الألوان لعرس ربيع قادم وعيد قربان ينتظر الخراف ، ويبكي الرعيان ..
يتلاشى شيئا فشيئا الغيم ، كالقطن المسافر بلا موعد إلى نقطة في طريق مسدودة و نهايةمحتومة ،
يحمل المطر مستنفرا حقائب الغيم الأسود يطير بها صوب صوت ينادي وارض خفاقة القلب عطشا بعيون جافة وشفاة مقرحة ، فتحزن وتخزن وجعها لقادم الآجال .
تتلاشى الغيوم ، تتلاشى قطرات المطر .
مر فصل الندى خفيفا ، يقطر الورد عسلا ويهاجر بالنحل الى جنته الجديدة ، ببيوت شيدها الربيع في حقول الأماني .
تمضي قوافل الفراشات نحو سنا النعيم وتستحم بندى الشهد وتنام في شرنقة الليل .
في الأبكار يتلاشى الندى شيئا فشيئا .
تكمل دورتها الشمس ، تلاعب الكواكب وتسابق الشهب المعلقة في غفوتها الأخيرة تنعس في لوحة متعددة الألوان خلابة بتاج النارنج ، تختفي خلف الوادي .
تتلاشى بتلات نورها شيئا فشيئا .
يتناوب القمر والنجوم حراسة المنامات ،
ساهرا على تنهيدات الأطفال ،وبوح الأمهات ،
ينيم الصغار في اسرة الكرى ،
يحصن العشاق على درب عودته
ويذهب الى مخدعه ذهبي الشعر ،
خلاب الابتسامة ، يساقط نثارا وشظايا
من رقائق ذهبه تذوب في طري فجر
سيقوم من فجره .
تتلاشى شظايا الرقائق في وشوشة العصفور للشجر .
شيئا فشيئا يتلاشى رذاذ القمر .
يبقى من لا يتلاشى ، عصي على الخطف والقتل ، عسير على ملوثي العقول ،وطن بعينين واسعتين على الافق وشرفة خضراء موشاة بالياسمين يطل منها على اطفاله ينامون في حضنه ، يقومون ، ياكلون ، يكدحون ثم ينامون .
هنالك من يولدون او من يموتون .
للقادمين الهدايا من وطن عاشق للطفولة ، ل
لذاهبين يعانق ارواحهم يؤبنهم ويطوبهم ،
يعلق طوقا من ياسمين الأبد على صدورهم ويرافق خطاهم الى سلام الأرض ونعيم البحار .
وطن شاسع يخفر الساهرين على حدود صبره ، ويودع في جيوب النهار آخر ورداته ،
ويخضب بفوح أزلي نجومه ،
يقطف من عالى الكون بهاءه ويسلم القائمين
على رفعته اوسمة الرفاه .
لا قيود لديه ، لا رتاج على بابه ،
قلبه مشاع للعابرين والسائلين ،
وطن مشرع على سماء وارض بسعة الكون ،
يرقب بعين الصبر كليلا السراق والفاسدين ،
ومخربي الأحلام ومدمني اغتيال السعادة
وممزقي لحمته العصية ، وطن يعشق انسان
في نقاء النور ، ويحبه في الق النوار .
وطن يكره من خانوه ومن عذبوه ،ومن لعب الوهم برؤوسهم فاعتقدوا انه يتلاشى شيئا فشيئا ،
جذوره تشدها الأرض الى اعماقها .
من يتلاشى هو الوهم ، ورؤوس فسدت تنادي
بفناء الوطن ،هو لن يتلاشى ، لايتلا شى أبدا وطن .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى