جمال نوري - عويل البيت المجاور

في مراتع الطفولة الأولى , وعلى ضفاف فصل اللهو والحركة الدائبة في البحث عن مصدر للتسلية والدعابة وجدتني انقاد في كل مرة إلى لعبة جديدة تأسرني بمفاتنها وطقوسها , وكنت أعكف على ابتكار لعبة المرايا وفي محاولاتي الغريبة تلك كنت اضطهد إخوتي الصغار في امتثالهم الدائم لرغباتي التعجيزية وتسخيرهم القسري لجلب أشيائي متناهية الغرابة وعندما احتاج إلى مائة قطعة من الزجاج كي أضيئ غرفة المخزن الصغيرة المعتمة وهذا بالتأكيد يستدعي خروجا من فناء البيت إلى المنطقة المحاذية لبيوتاتنا الطينية حيث تتكدس القمامة بشكل لافت وقد يتقاطع هذا الأمر مع زجر والدي المتواصل بعدم مغادرة سجن البيت المتمثل بفناء
لا تتعدى مساحته خمسة أمتار فقط وفي لجة اللعب العشوائي تناهت إلى مسامعنا أصوات بكاء وصراخ من البيت المجاور لنا ولم نكن نملك إلا ان نتسلق السلالم بخفة وفضول كان يربكنا في طفولتنا المجدبة تلك وكلما ارتفعنا بأقدامنا الحافية على السلالم تفاقم الصوت وهو يجرح دهشتنا التي ستنطفئ حالا عندما تكون إطلالتنا على باحة البيت المجاور مشروعة ومشفوعة بلذة الاكتشاف , لم يكن الأمر كما توقعنا , أو كما توقعت أنا في الأقل لأني كنت أتصور ان حدثا جللا قد حصل وان احدهم قد احترق ولم تكن مخيلتي تستوعب صورا كثيرة لضيق عوالمنا ولمحدودية حركتنا التي كانت تقتصر على الذهاب إلى المدرسة المحاذية والعودة منها مهمومين بواجباتنا المدرسية التي ينبغي انجازها وإلا تعرضنا إلى لسعات عصا المعلم الذي كان يتربص بنا عند كل زلة او إهمال .. وربما تذكرت بعض الرحلات التي كان أبي يقودني إليها في حالات اضطرارية , مثل تلك الوعكة الصحية التي ألمت بي وعجز الأطباء في مدينتنا عن علاجها مما استوجب ذهابي معه إلى بغداد , اية مدينة ساحرة هي تلك المدينة المزدحمة بالسيارات والشوارع النظيفة ؟لم أكن أحسن غير الالتفات إلى النساء وهن يرتدين تنورات قصيرة تكشف عن أفخاذهن البضة ..و كان أبي يقرص أذني بين لحظة وأخرى ويقول لي : انتبه يا ولد ..
حين ارتطمنا بالسياج المنخفض أطللنا بعيوننا الذاهلة على مشهد جديد لم نألفه او نشاهده من قبل , ان تقفز النساء بحركات إيقاعية متناغمة مع صرخات عالية تتبعها أيدي وأظفار تحفر في وجوه بيضاء ساطعة . هو طقس غريب ومثير في تفاصيله جف لساني وأنا أتطلع إلى الأثداء وهي تترجرج مع حركة الضرب بالأكف وشعرت وكأني افقد توازني وازددت التصاقا بالسياج الواطئ بينما انصرف إخوتي الصغار إلى لعبهم اذ لم يحفلوا بالمشهد مع مافيه من إثارة وشبق شعرت على أثرها بتوقد وحركة غريبة استدعت كل مساماتي للتفاعل مع الرؤوس المتمايلة وهي تؤرجح الشعر الأسود الفاحم بينما هرعت أحداهن في حركة بهلوانية إلى تمزيق ثوبها في حين شاهدت في أقصى الفناء الذي امتد أمامي سريرا ولحافا غطى جسد الميت كاملا ... سارعت النسوة الى تغطية جسد المرأة التي بدت مفاتنها في أقصى إثارتها ووجدت جسدي يلتصق أكثر بالسياج ويدي الراعشتين تمسكان بالطابوق الجمهوري الذي بدا صلبا للغاية في تلك اللحظات المصيرية .. كم كنت بحاجة الى رشفة ماء تبلّ جفاف لساني وحنجرتي ولم اقو على مناداة إخوتي كي آمرهم بجلب قدح من الماء .. ولم يتوقف الطقس الاحتفالي الحزين عند هذه المشاهد بل انضمت العديد من النسوة الى المكان ليحتشد بأجسادهن المتحفزة لأداء تلك الحركات المذهلة في ندب الميت الذي لوعرف مافعله موته بتلك الأجساد لاعتذر من الموت واستأذنه كي يرى هذا الرقص الباكي وهو يؤبن رحيله الى العالم الآخر .. كنت أتصبب عرقا وجسدي ما انفك يدفع السياج ويحتك به في حركة مضطربة انتهت بخدر لذيذ ورعشة طارئة انتشرت في اوصالي بينما استرخت اصابعي الممسكة بالطابوق وهي تغادر عنفوان الدقائق القليلة الماضية ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى