أدب السجون د. عبدالكريم المصطفاوي - صورة طبق الأصل..

لا أعلمُ ما الذي يحملني يومياً على المسير في ذلك الدرب الترابي المقفر. يلتوى عنقي بحركة انعكاسية لاارادية، يسترق طرفُ عيني نظرة خائفة نحو ذلك السور المتَوّج بالأسلاك الشائكة، القابعُ هناك غير بعيدٍ، معلنًا عن معتقل يعرف بسجن "أبو غريب!" ودلالة إسمه جُسِّدتْ حرفيًا في زنزانات تحت الأرض، لا يعلم عنها إلا أولئك المُعَذَبون و الخُلَصُ من المُعَذِبين!
قفزَ إلى ذاكرتي جبار، الملقب ب" جبار صاروخ"، رأسه الذي يشبه الصاروخ ،منحه هذا اللقب.
تذكرتُ كَمُّ القسوة والوحشية التي يحملها هذا "الصاروخ". يا لله، هل يوجد في هذا الكون إنسان بهذه الصفات؟! كان جبار مرعبًا بدرجة لا توصف! الغريب ان ملامحه التي تفتقد للرجولة في مظهرها، وتعبيراتها الجامدة، لا تعطي مؤشرًا على ما ارتكبه من فظائع بحق المعارضين للنظام، أو الذين اتهموا بأنهم كذلك!
صاروخ يحمل ملامح أقرب للمرأة منه للرجل، بل هو أشبه بالمسخ منه إلى الإنسان؛ وجه املط، عينان صغيرتان، صدغان بارزان، جبهة غائرة ممتدة حتى منتصف هامته، شعره يكافحُ ليصل في أقصاه الى منتصف رأسه المعيني!
بلمح البصر يقفز الى ذهني شريط الذكريات هذا، ما أن ألمح سور السجن! كان يستقتل في استحضار أساليب تعذيب مبتكرة، ليحصل على المكافأة المنتظرة من "الأستاذ". تساءلتُ مع نفسي مستنكرًا؛ هل تستحق تلك المكافأة كل هذا؟ لم تكن أكثر من "عفية" أو نصف " لشة" تمنح له ولأمثاله في عيد ميلاد الزعيم!
كنت أكافحُ بين لحظةٍ وأخرى، محاولًا الهروب من متابعة الشريط. زاوية نظري مائلة بدرجة ١٢٠، ورأسي المستدق له القدرة على المشاهدة من تلك الزاوية التي يعجز أغلب الناس من استخدامها! قلبي لا يحتمل مايراه من طرائق غريبة وفريدة في التعذيب، حتى ان عمليات من قبيل؛ تسبيل عيون، اغتصاب الأخت والبنت والزوجة أمام أعين بعض المتهمين! أو غَمرُ الارضية بالماء، صارت تقليدية أمام تفنن "صاروخ" في استحداث ما لم تجود به أفكار الآخرين. لن انسى تلك اللقطة؛ سجين عوقب بوضعه في مرحاض طفحت مياهه لنصف متر، يحاول جاهدًا نبش جدار المرحاض بأظافره عَلّهُ يتشبث به فترتفع قدماه ليتخلص من كتل الفضلات النتنة التي ملأت بنطاله من الأعلى والاسفل، تصطك أسنانه من برودة القذارة الآسنة . هكذا ظلَّ يقاسي جرّاءَ الصعود والهبوط! حتى ملأت رائحة الامونيا أنفه ورأسه، سقط وأغمى عليه. سجين آخر حبسه جبار لأشهر في زنزانة منفردة، لم تطرق سمعه كلمة واحدة لبشر، طيلة تلك المدة!
استغرابي يزداد، كلما أوغلت بيّ ذاكرتي ودارت! دبّ الغضب في أجزاء جسدي كله، حنقًا وكراهيةً لهذا السجان الشرير، شعور اختلط برغبة عارمة في تعذيبه بطريقة لم يفكر فيها هو نفسه، لو تمكنتُ منه، ساجعله يعجبُ ،ويُذهل منها!
لم أحتمل المواصلة، لا أقوى على متابعة مشاهد أكثر ، ما رأيته لن يدمل جروحه البكاء والصراخ، ولا الاستغفار أو الندم لسبعين ألف عام!
أوقفتُ الشريط وأخذت نفسًا عميقًا. قلت في قرارة نفسي؛ ايعقل أن يكون هناك أناسٌ يحملون ذرة من الإنسانية يفعلون جزءاً مما فعل هذا الوحش الكاسر!
التفتُ ثانية نحو الشريط الذي توقف قبل ثوانٍ عند صورة ذلك الرجل والشرر يتطاير من عينيه في لقطة يعذب فيها طفلًا بعمر الخمس سنوات!
الغريب ان صورة الوحش لا تختلف عن صورتي، بخلاف تلك التجاعيد التي أضفت على ملامحي قبحًا وخزياً أكبر!

عبدالكريم المصطفاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى